الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، وحكم الخرص فهو دليل على أن للإمام في الأراضي التي يكون للإمام خراجها خراج المقاسمة ، وفي الأرض العشرية أن يبعث من يخرص الثمار والزروع على أربابها ، إلا أن عند الشافعي هذا الخرص بمنزلة الكيل ، حتى إذا ادعوا النقصان بعد ذلك لا يقبل قولهم إلا بحجة ، وعندنا هذا الخرص لا يكون ملزما إياهم شيئا ; لأن الذي يخرص إنما يقول شيئا بظن والظن لا يغني من الحق شيئا ، فالقول قولهم في دعوى النقصان ، وعلى من يدعي عليهم الخيانة والسرقة إثبات ذلك بالبينة ، وعلى هذا الأصل جوز الشافعي - رحمه الله - بيع العرايا وهو بيع الثمر على رءوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق ، وقال : الخرص بمنزلة الكيل ، ولا يجوز ذلك علماؤنا - رحمهم الله - وقالوا : الخرص ليس بمعيار شرعي تظهر به المماثلة فيكون هذا بيع الثمر بالثمر مجازفة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { التمر بالتمر مثلا بمثل } ، وتأويل ما فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما : أن ذلك كان على سبيل النظر للمسلمين منه حتى يتحرز اليهود من كتمان شيء ، فقد كانوا في عداوة المسلمين ، بحيث لا يمتنعون مما يقدروا عليه من الإضرار بالمسلمين ، وقيل كان ابن رواحة مخصوصا بذلك حتى كان خرصه بمنزلة كيل غيره لا يتفاوت ، قد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي ، أو كان له ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكونه مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بين فيما رواه بعد هذا ، ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره ، ومعنى قوله : " إن شئتم فلكم ، وإن شئتم فلنا " أي : إن شئتم أخذتم ما خرصت وأعطيتمونا نصف ذلك بعد الإدراك ، وإن شئتم أخذنا ذلك وأعطيناكم نصف ذلك بعد الإدراك ، فهذا منه بيان ، أنه عدل في الخرص ولم يمل إلى المسلمين ، ولا قصد الحيف على اليهود ، وعن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى أهلها الذين كانت لهم على أن يعملوها ، فإذا بلغت الثمار كان لهم النصف وللمسلمين النصف ، فبعث ابن رواحة رضي الله عنه فخرصها عليهم ، وقد بينا فائدة الحديث ، وفي اللفظ المذكور في هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله - أنه من عليهم بأراضيهم وجعل عليهم نصف الخارج بطريق خراج المقاسمة ، وعن حجاج بن أرطاة قال : سألت محمد بن علي رضي الله عنه عن المزارعة بالثلث فالنصف فقال : أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر وأبو بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وأهلوهم إلى يومهم هذا يفعلونه ، وفيه دليل جواز [ ص: 7 ] استعمال القياس ، فقد سئل عن المزارعة وجوازها استدلالا بالمعاملة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل خيبر في النخيل ، وقيل : بل كانت بخيبر نخيل ومزارع ، فقد كان عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في المزارعة عقد مزارعة ، وفي هذا الحديث دليل لهما على أبي حنيفة - رحمه الله - وفي جواز المزارعة والمعاملة وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر قال لليهود : أقركم ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ابن رواحة فخرص عليهم ، ثم يقول : إن شئتم فلكم ، وإن شئتم فلنا فكانوا يأخذونه } وفي هذا الحديث بيان أن ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم كان على طريقة الصلح ، وقد يجوز من الإمام المعاملة بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ، ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين فيضعف من هذا الوجه استدلالهم بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، وفيه دليل هداية ابن رواحة رضي الله عنه في باب الخرص ; فإنهم كانوا أهل نخل ، وقد علموا أنه أصاب في الخرص حين رغبوا في أخذ ذلك ، وعن سليمان بن يسار { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث ابن رواحة فيخرص بينه وبين اليهود قال : فجمعوا له حليا من حلي نسائهم فقالوا : هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقال : يا معشر اليهود إنكم أبغض خلق الله تعالى إلي ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم ، أما الذي عرضتم من الرشوة فهو سحت ، وإنا لا نأكلها فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض } وإنما طلبوا من ابن رواحة رضي الله عنه ما ظهر منهم من الميل إلى أخذ الرشوة وترك بيان الحق لأجله ، فإنهم كتموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث أمته من كتابهم ، وحرفوا الكلم عن مواضعه بهذا الطريق ، كما قال الله تعالى { ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } وما طلبوا منه التخفيف من غير ميل وخيانة ، فقد كان ابن رواحة رضي الله عنه يفعل ذلك من غير طلبهم وبه كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام قال للخراصين : خففوا في الخرص فإن في المال العارية والوصية } ثم إنه قطع طمعهم بما قال : " إنكم من أبغض خلق الله تعالى إلي " وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة ، فإنهم في عداوة المسلمين بهذه الصفة كما قال الله تعالى { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } وقال عليه الصلاة والسلام { ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله } وكان شكواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت حتى قال [ ص: 8 ] { : لو آمن بي اثنا عشر منهم آمن بي كل يهودي على وجه الأرض } يعني رؤساءهم ، ثم بين أن هذا البغض لا يحمله على الحيف والظلم عليهم ، فالحيف هو الظلم قال الله تعالى { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } فكيف يحمله ما عرضوا من الرشوة على الميل إليهم ؟ ، وقال : " أما الذي عرضتم من الرشوة فإنها سحت يعني تناول السحت من معامليكم دون المسلمين ، وقد وصفهم الله بذلك بقوله { سماعون للكذب أكالون للسحت } والسحت هو الحرام الذي يكون سببا للاستئصال ، مأخوذ من السحت قال الله تعالى { فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى } أي يستأصلكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض ، يعني : ما يقوله حق وعدل وبالعدل قامت السموات والأرض ، وكان شيخنا الإمام - رحمه الله - يقول في هذا الحديث إشارة إلى أن أمتعة النساء وحليهن لم تزل عرضة لحوائج الرجال ، فإن اليهود لحاجتهم إلى ذلك تحكموا على نسائهم فجمعوا من حلي نسائهم ، وحكي أن رجلا من أهل العلم كانت له امرأة ذات يسار فسألها شيئا من مالها لحاجته إلى ذلك فأبت فقال : لا تكوني أكفر من نساء خيبر كن يواسين أزواجهن بحليهن وأنت تأبين ذلك { ، وعن ابن سيرين - رحمه الله - قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فقال : بعثني إليكم من هو أحب إلي من نفسي ، ولأنتم علي أهون من الخنازير ، ولا يمنعني ذلك من أن أقول الحق هكذا } ينبغي لكل مسلم أن يكون في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وولده وماله ; لأنه به نال العز في الدنيا ، والنجاة في الآخرة قال الله تعالى { : وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } يعني بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه وينبغي أن يكون اليهود عند كل مسلم بهذه الصفة والمنزلة أيضا ، فهم شر من الخنازير فيما أظهروا من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدا وتعنتا ، فكأنه قال ذلك ; لأنه قد مسخ منهم قردة وخنازير كما قال الله تعالى { وجعل منهم القردة والخنازير } وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاصر بني قريظة فسمع من بعض سفهائهم شتيمة فقال : صلى الله عليه وسلم " أتشتمونني يا إخوة القردة والخنازير " فقالوا : " ما كنت فحاشا يا أبا القاسم " قال : " وذلك لا يمنعني من أن أقول الحق " فقالوا : " بهذا قامت السموات والأرض " أي : بالحق ومخالفته الهوى والميل بها ، ثم قال : " قد خرصت عليكم نخيلكم " ففيه دليل : أن النخيل كانت مملوكة لهم ، وأن ما كان يؤخذ منهم بطريق خراج المقاسمة فإن شئتم فخذوه ولي عندكم الشطر ، وإن شئتم أخذته ، ولكم عندي الشطر [ ص: 9 ] فخذوه فإن لكم فيه منافع فأخذوه فوجدوا فيه فضلا قليلا ، وهذا دليل على حذاقته في باب الخرص ، وأن خرصه بمنزلة كيل غيره حين لم يخف عليه الفضل اليسير ، وإنما تجوز بذلك ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمره بالتخفيف في الخرص ، ولم يترك النصيحة لهم في الأخذ مع شدة بغضه إياهم ، فدل أنه لا ينبغي للمسلم أن يترك النصيحة لأحد من ولي أو عدو إذا كان لا يخاف على نفسه ; لأن نصيحته بحق الدين ، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر وقال : لكم السواقط } قيل المراد من السواقط ما يكسر من الأغصان من النخيل مما يستعمل استعمال الحطب ، والأصح أن المراد ما سقط من الثمار قبل الإدراك فإن ذلك مما لم يمكن ادخاره إلى وقت القسمة ; لأنه يفسد فشرط ذلك لهم دفعا للحرج عنهم ، وفيه دليل على أن مثل هذا يجعل عفوا في حق المزارع والمعامل ; لأنه لا يتأتى التحرز عنه إلا بحرج ، والحرج مدفوع ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن رواحة رضي الله عنه فخرص عليهم مائة وسق فقالت اليهود : أشططتم علينا فقال عبد الله رضي الله عنه : نحن نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالت : بهذا تنصرون وقوله : أشططتم علينا أي : ظلمتمونا وزدتم في الخرص } ، والشطط عبارة عن الزيادة قال عليه السلام { : لا وكس ولا شطط } ، وكان ذلك منهم كذبا وكانوا يعلمون ذلك ولكن كان من عادتهم الكذب ، وقول الزور مع علمهم بذلك كما وصفهم الله تعالى به بقوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } فرد عليهم تعنتهم بما قال : إنا نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالوا بهذا تنصرون أي : بالعدل والتحرز عن الظلم ، فالنصر موعود من الله تعالى للعادلين المتمسكين بالعدل والحق في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى { إن تنصروا الله ينصركم } يعني إن تنصروا الله تعالى بالانقياد للحق والدعاء إليه وإظهار العدل ينصركم ويثبت أقدامكم ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع "

التالي السابق


الخدمات العلمية