الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا اجتمع الموجب للحد ، والمسقط له ترجح المسقط على الموجب وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضي الله عنهم ، وأقوى ما يستدل به قول الرسول عليه الصلاة والسلام { : حرمت الخمر لعينها ، والمسكر من كل شراب } ، وبهذا تبين أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة ; لأن عطف الشيء على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم [ ص: 16 ] وقد بينا أنه كان يسمى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز ، والمجاز لا يعارض الحقيقة ، وما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { : كل مسكر خمر } لا يكاد يصح ، فقد قال يحيى بن معين رحمه الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر في جملتها كل مسكر خمر ، ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص ، وهو الحد ، فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي ، ونحن نقول : إن المسكر ، وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه يجب الحد بشربه ، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى يوم النحر عام حجة الوداع ، فأتي بنبيذ من السقاية ، فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ، ورده قال العباس رضي الله عنه : أحرام هذا يا رسول الله ؟ فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا بماء ، وصب عليه ، ثم شرب ، وقال إنه إذا استلبث عليكم شيء من الأشربة ، فاكسروا متونها بالماء } ، فقد كان مشتدا ، ولهذا قطب وجهه ، ورده ثم لما خاف أن يظن الناس أنه حرام أخذه ، وشربه ، فدل أن المشتد من المثلث لا بأس بشربه .

ولا يقال : إنما قطب وجهه لحموضته ; لأن شرب السقاية إنما كان يتخذ لشرب الحاج ، ولا يسقى الخل العطشان ، فعرفنا أنه قطب وجهه للشدة ، والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى { : وأنهار من خمر لذة للشاربين } ، فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعلم بالإصابة منه تلك اللذة ، فيتم الترغيب فيه ، وما هو مباح في الدنيا يصير كالأنموذج لما هو موعود في دار الآخرة .

( ألا ترى ) أنه لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في الدنيا ، وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج ، والبلور ، وغير ذلك لهذا المعنى ، ولهذا المعنى وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك ، وتقرر هذا الحرف من وجه آخر ، فنقول إن الشرع حرم الخمر ، ولا شك أن هذه الحرمة لمعنى الابتلاء ، وإنما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس ، وتعاطيها للأمر ، وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق ، والإصابة ، فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة ، فيتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا ، وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام ; لأن قليله يدعو إلى كثيره ، فأما هذه الأشربة ، ففيها من الغلظ ، والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها ، فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة ، والمسكر منها حرام .

وقد بينا أن [ ص: 17 ] المسكر هو الكأس الأخير ، وأنه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه ، وهو كمن شرب أقداحا من ماء ، ثم شرب قدحا من الخمر ، فالمحرم عليه هو الخمر ، وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الأقداح ، فهذا مثله .

فإن كان يسكر بشرب الكثير منه ، فذاك لا يدل على أنه يحرم تناول القليل منه كالبنج ، ولبن الفرس ، وأما الحديث ، فنحن نقول به ، وكل مسكر عندنا حرام ، وذلك القدح الأخير ، وروي عن أبي يوسف أنه قال في تأويله : إذا كان يشرب على قصد السكر ، فإن القليل ، والكثير على هذا القصد حرام ، فأما إذا كان يشرب لاستمراء الطعام فلا ، فهو نظير المشي على قصد الزنا يكون حراما ، وعلى قصد الطاعة يكون طاعة ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ما أسكر كثيره ، فقليله حرام هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقدح الأخير الذي هو مسكر قليله ، وكثيره حرام ، ثم هذا عند التحقيق دليلنا ، فبهذا يتبين أن ما هو الكثير منه يكون مسكرا ، فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير ، وإنما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح الأخير ، فأما إذا جعلنا الكل محرما ، فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر الحديث ، ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ، ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه ، ومهما أمكن الجمع بين الآثار ، فذلك أولى من الأخذ ببعضها ، والإعراض عن بعضها ، ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا ، أو أحدهما وحده إذا طبخ ; لأن البسر من نوع التمر ، فإنه يابس العصب ، وقد بينا : أن المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال ، والمسكر منه حرام ، وكذلك التمر والزبيب ، أو البسر والزبيب ، وهو شراب الخليطين ، وقد بينا الكلام فيه ، وبعد ما طبخ معتقه ، وغير معتقه سواء في إباحة الشرب يعني المشتد منه ، وغير المشتد منه ، والمحرم المسكر منه ، وذلك بغير المشتد لا يحصل .

ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الأكل فوق الشبع ، ولا بأس بهذه الأنبذة كلها من العسل ، والذرة ، والحنطة ، والشعير ، والزبيب ، والتمر ، وكل شيء من ذلك ، أو غيره من النبيذ عتق ، أو لم يعتق خلط بعضها ببعض ، أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر ، والزبيب ، فقد بيناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية