الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال الواقدي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر ، فما حل عقدة حتى انتهى إلى الصلصل . وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل . وكانوا عشرة آلاف .

                                                                                      وذكر عروة وموسى بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اثني عشر ألفا .

                                                                                      وقال ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه العباس بأبي سفيان فأسلم بمر الظهران . فقال : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلو جعلت له شيئا ؟ قال : نعم ؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .

                                                                                      زاد فيه الثقة ، عن ابن إسحاق قال : ناده ، فقال أبو سفيان : وما تسع داري ؟ قال من دخل الكعبة فهو آمن ، قال : وما تسع الكعبة ؟ قال : من دخل المسجد فهو آمن . قال : وما يسع المسجد ؟ قال : من أغلق بابه فهو آمن . فقال : هذه واسعة .

                                                                                      وقال حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ، قال العباس وقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من [ ص: 168 ] المدينة : يا صباح قريش ، والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عنوة ، إنه لهلاك قريش آخر الدهر . فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وقال : أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن ، أو داخلا يدخل مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوه فيستأمنوه ، فخرجت فوالله إني لأطوف بالأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وقد خرجوا يتجسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعت صوت أبي سفيان وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط نيرانا ، فقال : بديل : هذه نيران خزاعة حمشتها الحرب ، فقال أبو سفيان : خزاعة ألأم من ذلك وأذل . فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فقال : أبو الفضل ؟ قلت : نعم . فقال : لبيك ، فداك أبي وأمي ، ما وراءك ؟ قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من المسلمين . قال : فكيف الحيلة ، فداك أبي وأمي ؟ فقلت : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك . فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا إلي وقالوا : عم رسول الله على بغلة رسول الله . حتى مررت بنار عمر فقال : أبو سفيان ؟ ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد . ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء .

                                                                                      ودخل عمر ، فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله ، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه . فقلت : يا رسول الله ، إني قد آمنته . ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه وقلت : والله لا يناجيه الليلة أحد دوني . فلما أكثر فيه عمر ، قلت : مهلا يا عمر ، [ ص: 169 ] فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا . فقال : مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به فقد آمناه ، حتى تغدو به علي الغداة ، فرجع بهالعباس إلى منزله .

                                                                                      فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي وأمي ما أوصلك وأكرمك ، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا بعد . فقال : ويحك أولم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك ، أما هذه فإن في النفس منها شيئا . قال العباس : فقلت : ويلك تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك . فتشهد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشهد : " انصرف به يا عباس فاحبسه عند حطم الجبل بمضيق الوادي ، حتى تمر عليه جنود الله " .

                                                                                      فقلت له : إن أبا سفيان يا رسول الله رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئا يكون له في قومك . فقال : " نعم ؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " . فخرجت به حتى حبسته عند حطم الجبل بمضيق الوادي ، فمرت عليه القبائل ، فيقول : من هؤلاء يا عباس ؟ فأقول : سليم . فيقول : ما لي ولسليم . وتمر به القبيلة فيقول : من هذه ؟ فأقول : أسلم . فيقول ما لي ولأسلم . وتمر جهينة . حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار ، في الحديد ، لا يرى منهم إلا الحدق . فقال يا أبا الفضل ، من هؤلاء ؟ فقلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار . فقال : [ ص: 170 ] يا أبا الفضل ، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما . فقلت : ويحك ، إنها النبوة . قال : فنعم إذن . قلت : الحق الآن بقومك فحذرهم . فخرج سريعا حتى جاء مكة ، فصرخ في المسجد : يا معشر قريش ; هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به . فقالوا : فمه ؟ قال : من دخل داري فهو آمن . قالوا : وما دارك ، وما تغني عنا ؟ قال : من دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق داره عليه فهو آمن .

                                                                                      هكذا رواه بهذا اللفظ ابن إسحاق ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موصولا ، وأما أيوب السختياني فأرسله . وقد رواه ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس بمعناه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية