الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال ابن عيينة : حدثنا ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي ، [ ص: 47 ] فقال : ابسط يدك أبايعك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : علام تبايعني ؟ قال : على ما في نفسك .

                                                                                      وقال مكي بن إبراهيم ، وأبو عاصم - واللفظ له - عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، ثم عدلت إلى ظل شجرة . فلما خف الناس قال : يا ابن الأكوع ألا تبايع ؟ قلت : قد بايعت يا رسول الله . قال : وأيضا . فبايعته الثانية فقلت لسلمة : يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال : على الموت . متفق عليه .

                                                                                      وقال عكرمة بن عمار ، عن إياس بن سلمة ، عن أبيه ، فذكر الحديث ، وقال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة فبايعته أول الناس وبايع ، حتى إذا كان في وسط الناس ، قال : " بايعني يا سلمة " . فقلت : يا رسول الله قد بايعتك . قال : " وأيضا " قال : ورآني عزلا فأعطاني حجفة أو درقة . ثم بايع ، حتى إذا كان في آخر الناس قال : " ألا تبايع " ؟ قلت : يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم . قال : " وأيضا " فبايعت الثالثة . فقال : " يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك " ؟ قلت : لقيني عامر فأعطيتها إياه . فضحك ثم قال : " إنك كالذي قال الأول : اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلى نفسي " ثم إن مشركي مكة راسلونا بالصلح حتى مشى بعضنا إلى بعض فاصطلحنا . وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه . وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله [ ص: 48 ] ورسوله . فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في ظلها . فأتاني أربعة من أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله فأبغضتهم ، فتحولت إلى شجرة أخرى ، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينا هم كذلك إذ ناد مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين ، قتل ابن زنيم . فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقد ، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي ، ثم قلت ، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه . ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم . وقال : " دعوهم ، يكون لهم بدء الفجور وثناؤه " فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزلت : ( وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ( 24 ) ) [ الفتح ] الآية . أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن رجالا من أهل مكة هبطوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل جبل التنعيم ليقاتلوه . قال فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذا ، فأعتقهم . فأنزل الله : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ( 24 ) ) الآية ، أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : حدثنا عمر بن محمد العمري ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، قد [ ص: 49 ] تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال - يعني عمر - : يا عبد الله انظر ما شأن الناس ؟ فوجدهم يبايعون ، فبايع ثم رجع إلى عمر ، فخرج فبايع .

                                                                                      أخرجه البخاري فقال : وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد قلت : ورواه دحيم ، عن الوليد .

                                                                                      قلت : وسميت بيعة الرضوان من قوله تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ( 24 ) ) [ الفتح ] .

                                                                                      قال أبو عوانة ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة ، قال : فانطلقنا في قابل حاجين ، فخفي علينا مكانها ، فإن كانت تبينت لكم فأنتم أعلم . متفق عليه .

                                                                                      وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد . قالت : بلى يا رسول الله ، فانتهرها ، فقالت : ( وإن منكم إلا واردها ( 71 ) ) [ مريم ] ، فقال : قد قال تعالى : ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ( 72 ) ) [ مريم ] . أخرجه مسلم .

                                                                                      قرأت على عبد الحافظ بن بدران : أخبركم موسى بن عبد القادر ، والحسين بن أبي بكر ، قالا : أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، قال : أخبرنا [ ص: 50 ] محمد بن أبي مسعود ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، قال : حدثنا أبو القاسم البغوي ، قال : حدثنا العلاء بن موسى إملاء ، سنة سبع وعشرين ومئتين ، قال : أخبرنا الليث بن سعد ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار " . أخرجه النسائي .

                                                                                      وقال قتيبة : حدثنا الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا ; قال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كذبت لا يدخلها ، فإنه شهد بدرا والحديبية " .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان في قصة الحديبية ; قالا : فدعت قريش سهيل بن عمرو ; قالوا : اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا تكونن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة . فخرج سهيل من عندهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا ، قال : " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " فوقع الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين ، وأن يخلوا بينه وبين مكة من العام المقبل ، فيقيم بها ثلاثا ، وأنه لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب ، وأنه من أتانا من أصحابك بغير إذن وليه لم نرده عليك ، ومن أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا ، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة ، وأنه [ ص: 51 ] لا إسلال ولا إغلال . وذكر الحديث .

                                                                                      الإسلال : الخفية ، وقيل الغارة ، وقيل : سل السيوف ، والإغلال : الغارة .

                                                                                      وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة كتب بينهم كتابا : " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك . قال لعلي : " امحه " . فأبى ، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، وكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . واشترطوا عليه أن يقيموا ثلاثا ، وأن لا يدخلوا مكة بسلاح إلا جلبان السلاح ، يعني السيف بقرابه . متفق عليه .

                                                                                      وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس نحوه أو قريبا منه أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدثني بريدة بن سفيان ، عن محمد بن كعب أن كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلح كان عليا رضي الله عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب : " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو " فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا : محمد رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتب ، فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد " فكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله .

                                                                                      وقال عبد العزيز بن سياه : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، قال : قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال : أيها الناس اتهموا [ ص: 52 ] أنفسكم ، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، ولو نرى قتالا لقاتلنا فأتى عمر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : بلى . قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى . قال : ففيم نعطي الدنية في أنفسنا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ولن يضيعني الله ، فانطلق متغيظا إلى أبي بكر ، فقال له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلىعمر فأقرأه إياه . فقال : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ قال : نعم ؛ فطابت نفسه ورجع . متفق عليه .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ، ومروان ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند أم سلمة فلم يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحر وحلق . فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وحلق بعض وقصر بعض . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغفر للمحلقين " فقيل : يا رسول الله والمقصرين ؟ فقال : " اغفر للمحلقين " ثلاثا . قيل يا رسول الله وللمقصرين ؟ قال : " وللمقصرين " .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : قيل له لم ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة ؟ فقال : إنهم لم يشكوا .

                                                                                      وقال يونس - هو ابن بكير - ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم ، عن أبي سعيد ، قال : حلق أصحاب رسول [ ص: 53 ] الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كلهم غير رجلين ; قصرا ولم يحلقا . أبو إبراهيم مجهول .

                                                                                      وقال ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن وهب بن عبد الله بن قارب ، قال : كنت مع أبي ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يرحم الله المحلقين " قال رجل : والمقصرين يا رسول الله ؟ فلما كانت الثالثة ، قال : " والمقصرين " .

                                                                                      وقال يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا زهير بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : نحر يوم الحديبية سبعون بدنة فيها جمل أبي جهل ، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها .

                                                                                      ويروى عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في عمرة الحديبية جملا كان لأبي جهل ، في أنفه برة من ذهب أهداه ليغيظ به قريشا .

                                                                                      وقال فليح بن سليمان ، عن رافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليها إلا سيوفا ، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا ، فاعتمر من العام المقبل ، فدخلها كما صالحهم . فلما أن أقام بها ثلاثا ، أمروه أن يخرج فخرج . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال مالك عن أبي الزبير ، عن جابر : نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . رواه مسلم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية