الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأيضا فهؤلاء لا يسمون كلا منهما الله أو رب العالمين، ولا يسمون اثنيهما باسم واحد، فلم يقل أحد من العقلاء إن مسمى الله أو رب العالمين هو منقسم الانقسام المعروف في نظر الناس، وهو أن يكون عينان لكل منهما حيز منفصل عن حيز الآخر.

وأيضا فلم يقل أحد إن الله كان واحدا ثم إنه انفصل وانقسم حتى صار بعضه في حيز وبعضه في حيز، فهذا المعنى المعروف من لفظ المنقسم منتف باتفاق العقلاء وهو مناف لأن يكون رب العالمين واحدا منافاة ظاهرة، ولكن لا يلزم من بطلان هذا بطلان مذهب المنازع الذي يقول إن الله واحد [ ص: 437 ] ليس هو اثنين منفصلين كل منهما في حيز منفصل عن حيز الآخر.

وقد يريد بعض الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض، وإن كان في ذلك فساد تنهى عنه الشريعة كالحيوان الحي والآنية ونحو ذلك، فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرا من الأجسام ليس منقسما بهذا الاعتبار، فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلا عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه، وهذا واضح.

وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله تعالى قسمته لكن العباد لا يقدرون على قسمته كالجبال وغيرها، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك كما لا يجوز أن يقال إنه يمكن عدمه أو موته أو نومه وأنه قادر على ذلك فإنه واحد لا إله إلا هو، وهذه القسمة تجعله اثنين منفصلين كل منهما في حيز آخر، وهذا ممتنع على الله، وذلك ظاهر ولا نزاع بين المسلمين بل بين العقلاء في ذلك، وإنما تنازع الناس في كثير من الأجسام هل يمكن [ ص: 438 ] قسمتها وتفريقها أم لا يمكن كأرواح بني آدم والملائكة بل كالعرش وغيره، وقد خالف كثير من الفلاسفة المسلمين في أن الأفلاك تقبل الانقسام والتفريق أو لا تقبلها، فالناس تنازعوا في كون بعض الأجسام تقبل الانقسام الذي هو تفريق بعض الجسم عن بعض، فأما الخالق تعالى وتقدس فما علمنا أحدا منهم يصفه بذلك ولو وصفه واصف بذلك لم يكن ما ذكره الرازي حجة على بطلان قوله كما سنذكره.

وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول الذي هو وجود الانقسام المعروف ولا بالمعنى الثاني الذي هو إمكان هذا الانقسام، فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد [ ص: 439 ] من الأجسام؛ كقوله تعالى: وإن كانت واحدة فلها النصف [النساء 11] وقوله : ذرني ومن خلقت وحيدا [المدثر 11] ونحو ذلك جسم واحد ومتحيز واحد، وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسما بالمعنى الأول، فإن المنقسم بالمعنى الأول لا يكون إلا عددا اثنين فصاعدا كالماء إذا اقتسموه وكالأجزاء المقسومة التي لكل باب من جهنم منها جزء مقسوم، وإذا كان هذا فيما يقبل القسمة كالإنسان والذي يقدر البشر على قسمته وما لا يقبل القسمة أولى بذلك، وهذا ظاهر محسوس بديهي لا نزاع فيه؛ فإن أحدا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيجعل في حيزين منفصلين أولا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية الكبر والعظم [ ص: 440 ] ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض، بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه؛ فإن أحدا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ولا يلزم من كونه جسما أو متحيزا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسما بهذا الاعتبار.

التالي السابق


الخدمات العلمية