الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 94 ] قلت: هذا الاستدلال هو معروف قديما من استدلال الجهمية النافية فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لا يجعل القديم واحدا فقط؛ فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة [ ص: 95 ] وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد، ومبنى ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكلم عن مواضعه.

وقد ذكر تلبيسهم وتحريفهم وإلحادهم أئمة السلف والخلف، وممن نبه عليه الإمام أحمد، قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية: فقالت الجهمية [ ص: 96 ] لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته .

قلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول: ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر .

قالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء؛ فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته؟! وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف [ ص: 97 ] وخوص وجمار واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته، والذي ليس له قدرة هو عاجز! ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علما فعلم، والذي لا يعلم هو جاهل! ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف.

قال: وسمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة [ ص: 98 ] المخزومي، فقال: ذرني ومن خلقت وحيدا [المدثر 11] وقد كان الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد.

فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودا بشيء يقال إنه من صفاته، فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب [ ص: 99 ] والتجزئة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون: النوع مركب من الجنس والفصل، ويستلزم أيضا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن [ ص: 100 ] الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم.

التالي السابق


الخدمات العلمية