الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما زيارة المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، والتمسح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، فهذا ليس مشروعا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولا رغب فيه، ولا تعلمه أحد من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يبنون مشهدا على قبر ولا مسجدا ولا غيره، وإنما حدثت هذه المشاهد بعد القرون المفضلة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم: القرن الذي بعث فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرت في دولة بني بويه ونحوهم من أهل البدع والجهل. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل لعن من يفعله، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.

وفي صحيح مسلم عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". [ ص: 164 ]

وفي موطأ مالك: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي المسند وغيره عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه أبو حاتم في صحيحه.

ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبره فإنه لا يتمسح بالقبر ولا يقبله، بل اتفقوا على أنه لا يشرع أن يستلم ويقبل إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستلم ولا يقبل على الصحيح، وإذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو استقبل القبلة، ودعا في المسجد، ولم يدع مستقبلا للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين أهل العلم، وإن نقل في ذلك ما يخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصل لها.

وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يستقبل القبر أو يستقبل القبلة؟ فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة، وقال الأكثرون: بل يستقبل القبر. وكانت حجرته خارجة عن المسجد، فلما كان زمن الوليد بن عبد الملك أمر أن يزاد في المسجد، فاشتريت الحجرة التي شرقي المسجد وقبليها من أهلها وزيدت في المسجد، [ ص: 165 ] فبقيت حجرة عائشة -التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه- داخلة في المسجد، ولما بنى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط حرفوها عن سمت القبلة، وجعلوا ظهرها مثلثا لئلا يصلي إليها أحد، لما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". كل ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن الله تعالى قال في كتابه عن قوم نوح: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا اتخذوا تماثيلهم. وفي رواية: عكفوا على قبورهم ولم يعبدوها، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها، فكان ذلك أول عبادة الأصنام.

فنبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حسم مادة الشرك، حتى أمر بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" ألا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". فأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل، فإن هذين كانا سببا لعبادة الأصنام.

التالي السابق


الخدمات العلمية