الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولو سافر لزيارة القبور التي عليها المساجد فلا أعلم أحدا من السلف أذن في ذلك، لكن رخص فيه طائفة من متأخري الفقهاء، ومنع منه آخرون، وقالوا: هو بدعة منهي عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصر الصلاة، لأنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن أن بصرة بن أبي بصرة لما [ ص: 168 ] رأى بعض من زار الطور - الطور الذي كلم الله عليه موسى - نهاه عن ذلك، وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".

فهذا يبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثار الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمة العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذر السفر إلى بقعة بعينها غير المساجد الثلاثة لم يجب الوفاء بنذره، ولو كان ذلك طاعة عندهم لوجب الوفاء به، واتفقوا على أن نذر الإتيان في المسجد الحرام يجب الوفاء به، وتنازعوا في من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجب الوفاء بذلك، لأن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجبا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاء بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم : "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وهذا طاعة لله بالاتفاق، فيستحب الوفاء به.

فإذا علم أن غير المساجد الثلاثة لم يقولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، علم أن ذلك ليس بطاعة، حتى مسجد قباء، قالوا: من قصده إذا أتى المدينة فحسن، وأما شد الرحل له فلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة". فإذا رغب في إتيان من [ ص: 169 ] يأتيه من بيته فيمن سافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصد مسجد مدينته وقريته، وليس له أن يسافر إلى مسجد مدينة أو قرية غير المساجد الثلاثة، بالاتفاق.

فهكذا يزور القبور الزيارة الشرعية، فيسلم على الميت، ويدعو له، إذا كان قريبا من مدينة هو فيها، أو اجتاز به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عظمت هذه البدع من أهل الأهواء الذين عطلوا المساجد عن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يفعلونه عند المشاهد، حتى صنفوا كتبا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: وأنتم عاكفون في المساجد ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله إلى قوله: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، ولم يقل: وأن المشاهد لله. [ ص: 170 ]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجل إذا تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فإذا جلس فإنه في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه " ما لم يحدث أو يخرج من المسجد".

التالي السابق


الخدمات العلمية