الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بعض سيرته

كان المهدي ، إذا جلس للمظالم ، قال : أدخلوا علي القضاة ، فلو لم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم [ لكفى ] .

[ ص: 255 ] وعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك : إلى متى تذنب [ إلي وأعفو ] ؟ قال : إلى أبد نسيء ، ويبقيك الله فتعفو عنا ، فاستحيا منه ورضي عنه .

وقال مسور بن مساور : ظلمني وكيل المهدي ، وغصبني ضيعة لي ، فكتبت إلى المهدي أتظلم ، فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس ، ومحمد بن علاثة ، وعافية القاضي ، فاستدناني المهدي ، وسألني عن حالي ، فذكرته ، فقال : أترضى بأحد هذين ؟ قلت : نعم ! فاستدناني حتى التزقت بالفراش ، وحاكمني ، فقال له القاضي : أطلقها له يا أمير المؤمنين ! قال : قد فعلت ، فقال عمه العباس : والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم .

وخرج المهدي متنزها ، ومعه عمر بن ربيع مولاه ، فانقطعا في الصيد من العسكر ، وأصاب المهدي جوع ، فقال : هل من شيء ؟ فقيل له : نرى كوخا ، فقصدوه ، فإذا فيه نبطي ، وعنده مبقلة ، فسلموا عليه ، فرد السلام ، فقالوا : هل من طعام ؟ فقال : عندي ربيثاء ، وهو نوع من الصحناة ، وعندي خبز شعير ، فقال المهدي : ( إن كان عندك زيت ، فقد أكملت . قال : نعم ، وكراث ، فأتاهما بذلك ، فأكلا حتى شبعا . فقال المهدي ) لعمر بن ربيع : قل في هذا شعرا ، فقال :


إن من يطعم الربيثاء بالزيت وخبز الشعير بالكراث     لحقيق بصفعة أو بثنتين
لسوء الصنيع أو بثلاث

فقال المهدي : بئس ما قلت ! إنما هو :


لحقيق ببدرة أو بثنتين     لحسن الصنيع أو بثلاث



قال : ووافاهم العسكر ، والخزائن ، والخدم ، فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف .

وقال الحسن الوصيف : أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي ، حتى ظننا أنها تسوقنا إلى [ ص: 256 ] المحشر ، فخرجت أطلب المهدي ، فوجدته واضعا خده على الأرض وهو يقول : اللهم احفظ محمدا في أمته ! اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم ! اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي ، فهذه ناصيتي بين يديك . قال : فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح . ( وزال عنا ) ما كنا فيه .

ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي المروزي الوفاة أوصى إلى المهدي فكتب : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) الآية ، ثم كتب : والقاسم يشهد بذلك ، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ، ووارث الإمامة من بعده ، فعرضت الوصية على المهدي بعد موته ، فلما بلغ إلى هذا الموضع رمى بها ، ولم ينظر فيها .

وقال الربيع : رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة ، فما أدري أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه ، فقرأ : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) .

قال : فتمم صلاته ، ثم التفت وقال : يا ربيع ! قلت : لبيك ! قال : [ علي ] بموسى ، فقلت في نفسي : من موسى ؟ ابنه أم موسى بن جعفر ، وكان محبوسا عندي ؟ فجعلت أفكر ، فقلت : ما هو إلا موسى بن جعفر ، فأحضرته ، فقطع صلاته ، ثم قال : يا موسى ! إني قرأت هذه الآية ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك ، فوثق لي أنك لا تخرج [ علي ] . قال : نعم ، فوثق له فخلاه .

وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : رأيت فيما يرى النائم ، في آخر سلطان بني أمية ، كأني دخلت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفعت رأسي ، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء ، فإذا فيه : مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ، وإذا قائل يقول : يمحو هذا الكتاب ويكتب اسمه رجل من بني هاشم [ ص: 257 ] يقال له محمد ، قلت : فأنا من بني هاشم ، واسمي محمد فابن من ؟ قال : ابن عبد الله . قال : قلت : فأنا ابن عبد الله ، فابن من ؟ قال : ابن محمد . قلت : فأنا ابن محمد ، فابن من ؟ قال : ابن علي ، قلت : فأنا ابن علي ، فابن من ؟ قال : ابن عبد الله . قلت : فأنا ابن عبد الله ، فابن من ؟ قال : ابن عباس ، فلو لم يبلغ العباس ما شككت أني صاحب الأمر .

قال : فتحدثت بها ذلك الزمان ، ونحن لا نعرف المهدي ، حتى ولي المهدي ، فدخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه ، فرأى اسم الوليد ، فقال : أرى اسم الوليد إلى اليوم ، فدعا بكرسي ، فألقي في صحن المسجد ، وقال : ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه ، ففعل ذلك ، وهو جالس .

وخرج المهدي يطوف بالبيت ليلا ، فسمع أعرابية تقول : قومي مقترون ، نبت عنهم العيون ، وفدحتهم الديون ، وعضتهم السنون ، بادت رجالهم ، وذهبت أموالهم ، وكثرت عيالهم ، أبناء سبيل ، وأنضاء طريق ، وصية الله ، ووصية الرسول ، فهل من آمر لي بخير ، كلأه الله في سفره ، وخلفه في أهله ! قال : فأمر لها بخمسمائة درهم .

وقال المهدي : ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها ، وأحسن ربها ، فإن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل .

وكان بشار بن برد قد هجا صالح بن داود ، أخا يعقوب ، حين ولي ، فقال :


هم حملوا فوق المنابر صالحا     أخاك فضجت من أخيك المنابر

فبلغ يعقوب هجاؤه ، فدخل على المهدي فقال له : إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين ، قال : وما قال ؟ قال : يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده . فأبى أن يعفيه ، فأنشده :


خليفة يزني بعماته     يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره     ودس موسى في حر الخيزران

.

فوجه في حمله ، فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه ، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة .

وماتت الياقوتة بنت المهدي ، وكان معجبا بها لا يطيق الصبر عنها ، حتى إنه كان [ ص: 258 ] يلبسها لبسة الغلمان ، ويركبها معه ، فلما ماتت وجد عليها ، وأمر أن لا يحجب عنه أحد ، فدخل الناس يعزونه .

وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية شبيب بن شيبة ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ! ما عند الله خير لها منك ، وثواب الله خير لك منها ، وأنا أسأل الله أن لا يحزنك ، ولا يفتنك ، وأن يعطيك على ما رزئت أجرا ، ويعقبك صبرا ، ولا يجهد لك بلاء ، ولا ينزع منك نعمة ، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده .

التالي السابق


الخدمات العلمية