الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس عشر: يقال له: ما تعني بقولك: لكان مفتقرا في وجوده إلى الغير؟! فإن الافتقار المعروف عند الإطلاق أن يكون الشيء محتاجا إلى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد إلى الله.

وأما الشيئان اللذان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة أو المقدرة وقدرة اللازم له، وكالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك؛ فهذه الأمور لا توصف بافتقار أحدهما إلى الآخر دون العكس، لكن إذا قيل: كل منهما مفتقر إلى الآخر كان بمنزلة قول القائل: الشيء مفتقر إلى نفسه، والمعنى أن أحدهما لا يوجد إلا مع الآخر، كما أن الشيء لا يكون موجودا إلا بنفسه، فإذا كان مخلوقا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لأحدهما هو الفاعل للآخر، وإذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرا إلى غير ذاته، وإنما المعنى أنه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزوما لا يمكن عدمه، وأحد هذه الأمور لازم للآخر لزوما يمكن معه عدمه.

[ ص: 638 ] وإذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الافتقار هنا، فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له أو لو كان له تحيز لازم لكان ملازما له لا ينفك عنه، وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل، كما لو قيل: لو كان واجبا بنفسه لكان مفتقرا إلى نفسه، والمعنى أن نفسه لازمة لنفسه لزوما لا يمكن عدمه؛ فإنما تغلط الأذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس، والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار إلى الغير من المحذور.

وهؤلاء عمدوا إلى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة، وسموا لزوم صفاته له افتقارا إلى الغير، فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الأمر، بل لا يستريب في ثبوتها أحد من العقلاء ما دام عاقلا عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معان فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها، كان هذا الاشتراك مما أشركوا فيه بين الله وبين خلقه، وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله؛ حيث أشركوا بين المعاني الواجبة لله والممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به [ ص: 639 ] ما يجب لله، وكانوا مشركين معطلين في اللفظ كما كانوا مشركين معطلين في المعاني، كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة.

بمنزلة من سمى رحمان اليمامة (الرحمن)، وجعل يقول للناس: أنا كافر بالرحمن! يوهمهم أن رحمان اليمامة هو كافر بالرحمن الذي على العرش. أو بمنزلة من سمى الأوثان آلهة والإله، وجعل يقول للمؤمنين: قد عبدت الإله ودعوت الإله، وإنما يعني به الوثن أو بمنزلة الله اللات [ ص: 640 ] والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وهو يعني الكفر بالله؛ فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما أثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك، ثم جعل يقول: ينزه الله تعالى عن أن يكون مفتقرا إلى الغير، وهو مثل من يسمي نبيه محمدا مذمما، ثم يقول: العنوا مذمما، وهو صلى الله عليه وسلم محمد وليس بمذمم.

التالي السابق


الخدمات العلمية