الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقولهم: ما معنى قول ابن المبارك؟ وقوله: لا أعرفه. قد يكون لا أعرف حقيقة مراده، لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على أن الله تنتهي إليه الأمور، وأنه في السماء ونحو ذلك، وقد يكون: لا أدري من أين قال ذلك، لكن له شواهد.

وقال الخلال: أنا يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد [ ص: 705 ] ابن حنبل قيل له: والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم؛ على عرشه لا يخلو شيء من علمه.

وقال: أخبرني عبد الملك الميموني أنه سأل أبا عبد الله [ ص: 706 ] ما تقول فيمن يقول إن الله ليس على العرش؟ قال: كلامهم كله يدور على الكفر.

وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه؛ ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس؛ فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة.

وقد رواه الخلال في كتاب السنة: أخبرني عبيد الله بن حنبل، حدثني أبي حنبل بن إسحاق، قال: قال عمي: [ ص: 707 ] نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد؛ فصفات الله عز وجل منه وله، وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو لا يدرك، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وكان الله قبل أن يكون شيء، والله الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته؛ فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه؛ نسأل الله التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير.

[ ص: 708 ] وذلك أن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان: يراد به حقيقة الشيء في نفسه، ويراد به القول الدال عليه المميز له، وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري، كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني. فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف، وأتبع ذلك بقوله : لا تدركه الأبصار [الأنعام 103] بحد ولا غاية، وهذا التفسير الصحيح للإدراك به؛ أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته، ثم قال: وهو يدرك الأبصار [الأنعام 103]، وهو عالم الغيب والشهادة؛ ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء.

وقال الخلال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى [ ص: 709 ] أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث، قال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء.

[ ص: 710 ] قال: وقال حنبل في موضع آخر، قال: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه، فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه، قال تعالى: وهو السميع البصير [الشورى 11].

قال: وقال حنبل في موضع آخر، قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون، وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن [ ص: 711 ] بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه، سميع بصير، لم يزل متكلما عالما غفورا، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب. فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال: ثم استوى على العرش [الأعراف 54] كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطالة له ليس كمثله شيء [الشورى 11] وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، قول إبراهيم لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير، صفاته منه، لا نتعدى القرآن والحديث والخبر، يضحك [ ص: 712 ] الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة.

وقال لي أبو عبد الله: قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة، تقول: ليس كمثله شيء [الشورى 11] فقلت له: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى 11]، قال: ما أردت بهذا؟ قلت: القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده، قلت له: المشبهة ما يقولون؟ قال: من قال: بصر كبصري ويد كيدي.

[ ص: 713 ] وقال حنبل في موضع آخر: وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه.

قال أبو عبد الله: جردوا القرآن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضع قدمه)، نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نؤمن به، قال الله تبارك وتعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء، والنهي عما نهى، وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك، إنه على كل شيء قدير.

قال: وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا [ ص: 714 ] الكلام، وقال تبارك وتعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم [البقرة 255] هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى.

وزاد علي بن عيسى عن حنبل، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: ما أحد أشد حدثا على أهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة، ولا أروى لأحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه.

قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم كله، ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا، حتى سمعت مقالتهم.

وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أحد أئمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن [ ص: 715 ] أنس: وهم مالك وابن أبي ذئب، وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة، قال: وقد سئل فيما [ ص: 716 ] جحدته الجهمية: أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغا، فرجعت خاسئة وهي حسيرة، فإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير، فإنما يقال: كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ولا يموت ولا يبلى؟! وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه ولا شيء أبين [ ص: 717 ] منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغرا يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، ولما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى 11] اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم يعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزجر به عن شيء من معصيته؟

التالي السابق


الخدمات العلمية