4200 [ ص: 469 ] باب: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم: تكذب

وأورده النووي في: (كتاب الرؤيا).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص20-22 جـ15، المطبعة المصرية

[عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس" قال: "وأحب القيد وأكره الغل والقيد ثبات في الدين" فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين].

التالي السابق

الشرح

(الشَّرْحُ)

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ; قَالَ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ: تَكْذِبُ).

قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: قِيلَ: الْمُرَادُ إِذَا قَارَبَ الزَّمَانُ: أَنْ يَعْتَدِلَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ، وَقْتَ اعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ غَالِبًا، وَانْفِتَاقِ الْأَزْهَارِ، وَإِدْرَاكِ الثِّمَارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِذَا قَارَبَ الْقِيَامَةَ.

[ ص: 470 ] قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ عَبْرِ الرُّؤْيَا. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِيَ. انْتَهَى.

قُلْتُ: وَالتَّقَيُّدُ "بِالْمُسْلِمِ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ "بِالْمُؤْمِنِ": يُعَكِّرُ عَلَى تَأْوِيلِ الِاقْتِرَابِ: "بِالِاعْتِدَالِ" إِذْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، وَأَيْضًا: الِاقْتِرَابُ يَقْتَضِي التَّفَاوُتَ. وَالِاعْتِدَالُ يَقْتَضِي عَدَمَهُ. فَكَيْفَ يُفَسَّرُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي؟ وَصَوَّبَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِاقْتِرَابِ الزَّمَانِ: انْتِهَاءُ دَوْلَتِهِ، إِذَا دَنَا قِيَامُ السَّاعَةِ؛ لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "فِي آخِرِ الزَّمَانِ: لَمْ تَكْذِبْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ". قَالَ: فَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: إِذَا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَقُبِضَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَدَرَسَتْ مَعَالِمُ الدِّيَانَةِ: بِالْهَرْجِ وَالْفِتْنَةِ، فَكَانَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ الْفَتْرَةِ: مُحْتَاجِينَ إِلَى مُذَكِّرٍ، وَمُجَدِّدٍ لِمَا دَرَسَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ تُذَكَّرُ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ": خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّمَانِ يُشْبِهُ زَمَنَ الْفَتْرَةِ: عُوِّضُوا عَنِ النُّبُوَّةِ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، الْآتِيَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاقْتِرَابِ: نَقْصُ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي: بِإِسْرَاعِ مُرُورِهَا، وَذَلِكَ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَالسَّاعَةُ كَاخْتِرَاقِ السَّعَفَةِ". قِيلَ: يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حِينَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ عِنْدَ بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ [ ص: 471 ] الْأَمْنِ، وَبَسْطِ الْخَيْرِ وَالرِّزْقِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ يُسْتَقْصَرُ لِاسْتِلْذَاذِهِ، فَتَتَقَارَبُ أَطْرَافُهُ.

وَأَشَارَ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ" بِقَوْلِهِ: "لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ": إِلَى غَلَبَةِ الصِّدْقِ عَلَى الرُّؤْيَا. لَكِنَّ الرَّاجِحَ: نَفِيُ الْكَذِبِ عَنْهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ، الدَّاخِلَ عَلَى "كَادَ": يَنْفِي قُرْبَ حُصُولِهِ. وَالنَّافِي لِقُرْبِ حُصُولِ الشَّيْءِ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِهِ نَفْسِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ.

قُلْتُ: وَفِي حَمْلِ الِاقْتِرَابِ عَلَى زَمَنِ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ: بُعْدٌ. وَإِنْ كَانَ زَمَنُ الْعَيْشِ يُرَى قَصِيرًا. فَإِنَّ هَذَا الْقِصَرَ قَدْ وُجِدَ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ، قَبْلَ زَمَانِنَا هَذَا، لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِ غَلَبَةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَلَمْ يَخْرُجِ الْمَهْدِيُّ وَلَمْ يَقْتَرِبِ الزَّمَانُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ.

وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِرَابِ: قِصَرُ طُولِ الزَّمَانِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَأَمَارَاتِ الْقِيَامَةِ الْعُظْمَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمُرَادِ.

(وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ [ ص: 472 ] الزَّمَانِ، عِنْدَ انْقِطَاعِ الْعِلْمِ، وَمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَنْ يُسْتَضَاءُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ جَابِرًا، وَعِوَضًا، وَمُنَبِّهًا لَهُمْ.

قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الصَّادِقِ فِي حَدِيثِهِ، يَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ: إِلَى رُؤْيَاهُ، وَحِكَايَتِهِ إِيَّاهَا.

(وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ: جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ).

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْدَادِ فِي هَذِهِ الْأَجْزَاءِ.

(وَالرُّؤْيَا: ثَلَاثٌ; فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ: بُشْرَى مِنَ اللَّهِ) يَأْتِيهِ بِهَا مَلَكُ الرُّؤْيَا، مِنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ.

(وَرُؤْيَا: تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَهُوَ الْحُلْمُ الْمَكْرُوهُ، وَالْأَضْغَاثُ، بِأَنْ يُرِيَهُ مَا يُحْزِنُهُ. وَلَهُ مَكَائِدُ يُحْزِنُ بِهَا بَنِي آدَمَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَمِنْ لَعِبِ الشَّيْطَانِ بِهِ: الِاحْتِلَامُ الْمُوجِبُ لِلْغُسْلِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

(وَرُؤْيَا: مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ) وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْيَقَظَةِ. كَمَنْ يَكُونُ فِي أَمْرٍ، أَوْ عِشْقِ صُورَةٍ، فَيَرَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، أَوْ مَعْشُوقَهُ: فِي الْمَنَامِ. وَهَذِهِ لَا اعْتِبَارَ لَهَا فِي التَّعْبِيرِ، كَاللَّاحِقَةِ.

[ ص: 473 ] (فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ: فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ) وَفِي بَابِ (الْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ): "فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَلَنْ يَضُرَّهُ". قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّلَاةُ: مَجْمَعُ الْبَصْقِ عِنْدَ الْمَضَمْضَةِ، وَالتَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: "الرُّؤْيَا يُلَابِسُهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ، لِيَحْزُنَ ابْنُ آدَمَ".

وَمِنْهَا: مَا يَهْتَمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ.

وَمِنْهَا: جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ".

(قَالَ: وَأُحِبُّ الْقَيْدَ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ): بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ: الْحَدِيدَةُ تُجْعَلُ فِي الْعُنُقِ. وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ. قَالَ تَعَالَى: [ ص: 474 ] إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ .

(وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ) مِنْ أَقْوَالِ الْمُعَبِّرِينَ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَرَاهُ الرَّائِي، بِحَسَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ لَهُ.

(فَلَا أَدْرِي! هُوَ فِي الْحَدِيثِ، أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ؟) قَالَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِرَاوِي ابْنِ سِيرِينَ. وَأَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِابْنِ سِيرِينَ. انْتَهَى.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَا أَحْسَبُهُ، إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: فِي الْقَيْدِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ فِي الرِّجْلِ: تَثْبِيتٌ لِلْمُقَيَّدِ فِي مَكَانِهِ. فَإِذَا رَآهَ مَنْ هُوَ عَلَى حَالَةٍ، كَانَ ذَلِكَ ثُبُوتًا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْغُلِّ; فَإِنَّ مَحَلَّهُ "الْأَعْنَاقُ": نَكَالًا، وَعُقُوبَةً، وَقَهْرًا، وَإِذْلَالًا. وَقَدْ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُجَرُّ عَلَى قَفَاهُ، فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا.

[ ص: 475 ] وَغَالِبُ رُؤْيَتِهِ "فِي الْعُنُقِ": دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ حَالَةٍ سَيِّئَةٍ لِلرَّائِي، تُلَازِمُهُ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ، كَوَاجِبَاتٍ فَرَّطَ فِيهَا، أَوْ مَعَاصٍ ارْتَكَبَهَا، أَوْ حُقُوقٍ لَازِمَةٍ لَهُ لَمْ يُوَفِّهَا أَهْلَهَا مَعَ قُدْرَتِهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي دُنْيَاهُ: كَشِدَّةِ تَعْتَرِيهِ، أَوْ تُلَازِمُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الشرح)

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم; قال: إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم: تكذب).

قال الخطابي وغيره: قيل: المراد إذا قارب الزمان: أن يعتدل ليله ونهاره، وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، وانفتاق الأزهار، وإدراك الثمار. وقيل: المراد إذا قارب القيامة.

[ ص: 470 ] قال النووي: والأول أشهر عند أهل عبر الرؤيا. وجاء في حديث ما يؤيد الثاني. انتهى.

قلت: والتقيد "بالمسلم"، وفي حديث آخر عند البخاري "بالمؤمن": يعكر على تأويل الاقتراب: "بالاعتدال" إذ لا يختص به المسلم، أو المؤمن، وأيضا: الاقتراب يقتضي التفاوت. والاعتدال يقتضي عدمه. فكيف يفسر الأول بالثاني؟ وصوب ابن بطال أن المراد باقتراب الزمان: انتهاء دولته، إذا دنا قيام الساعة؛ لما في الترمذي من طريق معمر عن أيوب، في هذا الحديث: "في آخر الزمان: لم تكذب رؤيا المؤمن". قال: فعلى هذا، فالمعنى: إذا اقتربت الساعة، وقبض أكثر أهل العلم، ودرست معالم الديانة: بالهرج والفتنة، فكان الناس على مثل الفترة: محتاجين إلى مذكر، ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، فلما كان نبينا "صلى الله عليه وآله وسلم": خاتم الأنبياء، وما بعده من الزمان يشبه زمن الفترة: عوضوا عن النبوة بالرؤيا الصالحة الصادقة، التي هي جزء من أجزاء النبوة، الآتية بالبشارة والنذارة.

وقيل: المراد بالاقتراب: نقص الساعات والأيام والليالي: بإسراع مرورها، وذلك قرب قيام الساعة. ففي صحيح مسلم، في حديث آخر: "يتقارب الزمان، حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاختراق السعفة". قيل: يريد أن ذلك يكون حين خروج المهدي عند بسط العدل، وكثرة [ ص: 471 ] الأمن، وبسط الخير والرزق؛ فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه، فتتقارب أطرافه.

وأشار "صلى الله عليه وآله وسلم" بقوله: "لم تكد تكذب": إلى غلبة الصدق على الرؤيا. لكن الراجح: نفي الكذب عنها أصلا؛ لأن حرف النفي، الداخل على "كاد": ينفي قرب حصوله. والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه. ويدل عليه قوله تعالى: إذا أخرج يده لم يكد يراها قاله في شرح المشكاة.

قلت: وفي حمل الاقتراب على زمن العيش الرغيد: بعد. وإن كان زمن العيش يرى قصيرا. فإن هذا القصر قد وجد في أزمنة كثيرة، قبل زماننا هذا، لا سيما في زمان غلبة دولة الإسلام، وخلافة العباسية. ولم يخرج المهدي ولم يقترب الزمان، على ما تقدم في حديث مسلم.

والظاهر: أن المراد بالاقتراب: قصر طول الزمان، بالنسبة إلى الزمان الماضي. وأن ذلك من أشراط الساعة الكبرى، وأمارات القيامة العظمى. والله أعلم بحقيقة المراد.

(وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) قال النووي: ظاهره: أنه على إطلاقه. وحكى عياض عن بعض العلماء: أن هذا يكون في آخر [ ص: 472 ] الزمان، عند انقطاع العلم، وموت العلماء والصالحين، ومن يستضاء بقوله وعمله. فجعله الله جابرا، وعوضا، ومنبها لهم.

قال: والأول أظهر؛ لأن غير الصادق في حديثه، يتطرق الخلل: إلى رؤياه، وحكايته إياها.

(ورؤيا المسلم: جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة).

تقدم الكلام على اختلاف الأعداد في هذه الأجزاء.

(والرؤيا: ثلاث; فالرؤيا الصالحة: بشرى من الله) يأتيه بها ملك الرؤيا، من نسخة أم الكتاب.

(ورؤيا: تحزين من الشيطان) وهو الحلم المكروه، والأضغاث، بأن يريه ما يحزنه. وله مكائد يحزن بها بني آدم إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ومن لعب الشيطان به: الاحتلام الموجب للغسل. وقد سبق الكلام عليه.

(ورؤيا: مما يحدث المرء نفسه) وهو ما كان في اليقظة. كمن يكون في أمر، أو عشق صورة، فيرى ما يتعلق به في اليقظة من ذلك الأمر، أو معشوقه: في المنام. وهذه لا اعتبار لها في التعبير، كاللاحقة.

[ ص: 473 ] (فإن رأى أحدكم ما يكره: فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس) وفي باب (الحلم من الشيطان): "فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه، فلن يضره". قال القرطبي: والصلاة: مجمع البصق عند المضمضة، والتعوذ قبل القراءة.

وعند ابن ماجه، بسند حسن، عن خباب بن مالك مرفوعا: "الرؤيا يلابسها أهاويل من الشيطان، ليحزن ابن آدم".

ومنها: ما يهتم به الرجل في يقظته، فيراه في منامه.

ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

(قال: وأحب القيد، وأكره الغل): بضم المعجمة: الحديدة تجعل في العنق. وهو من صفات أهل النار. قال تعالى: [ ص: 474 ] إذ الأغلال في أعناقهم .

(والقيد ثبات في الدين) من أقوال المعبرين.

وفي حديث آخر: القيد ثبات في الأمر الذي يراه الرائي، بحسب من يرى ذلك له.

(فلا أدري! هو في الحديث، أم قاله ابن سيرين؟) قال في شرح المشكاة: " يحتمل أن يكون مقولا لراوي ابن سيرين. وأن يكون مقولا لابن سيرين. انتهى.

وقال يونس بن عبيد: لا أحسبه، إلا عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: في القيد.

قال القرطبي: هذا الحديث وإن اختلف في وقفه ورفعه، فإن معناه صحيح؛ لأن القيد في الرجل: تثبيت للمقيد في مكانه. فإذا رآه من هو على حالة، كان ذلك ثبوتا على تلك الحالة.

وأما كراهة الغل; فإن محله "الأعناق": نكالا، وعقوبة، وقهرا، وإذلالا. وقد يسحب على وجهه، ويجر على قفاه، فهو مذموم شرعا.

[ ص: 475 ] وغالب رؤيته "في العنق": دليل على وقوع حالة سيئة للرائي، تلازمه ولا تنفك عنه. وقد يكون ذلك في دينه، كواجبات فرط فيها، أو معاص ارتكبها، أو حقوق لازمة له لم يوفها أهلها مع قدرته. وقد يكون في دنياه: كشدة تعتريه، أو تلازمه. والله أعلم.