الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الوجه الثاني، فقوله: إنه لما كان متناهيا من جميع [ ص: 753 ] الجوانب، فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء، بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى، ويكون قادرا على أن يخلق فيها جسما فوقه، فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرا وجوديا، وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادهما في غير موضع من كتبك، وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرا وجوديا، وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك، وظهر صحة قوله سبحانه : هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد 3] وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. وهذا النص أيضا يدل على أنه ليس فوق [ ص: 754 ] الله شيء، وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئا، وكل موجود فإنه يسمى شيئا، فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزا وغيره، وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة.

والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى، وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى، حتى إنه يقول: ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناه أن لا يكون وراءه أحياز موجودة، فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة، بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو، ويمكن أن يخلق مثله عالما آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعروفة [ ص: 755 ] التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والإيجاب، فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحياز خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلا من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن لله شريكا من خلقه أو أن له ولدا لا يرضى مثله لنفسه، فيقال له: المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة، فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة.

وأما قوله: هو قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ. فيكون ذلك الجسم فوقه. فيقال لك: هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء، فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه، كما لا يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده، فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء، كما أنه إذا وجب أن يكون الأول و [ ص: 756 ] الآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء. لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء، وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعا ظهر فيه امتناع أن يكون قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز.

ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم، بل هم باقون أبدا وإن كانوا متحيزين فلا حد ولا نهاية لآخرهم، وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأماكنها؛ ولهذا لما أراد جهم أن يطرد دليله في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار، [ ص: 757 ] ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار.

والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد، وإن كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيا لم يجب أن يكون فوقه شيء؛ إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية، وقد تقدم إبطاله لذلك.

وأيضا فيقال له: أنت لم تذكر حجة على امتناع أحياز خالية ، ولا امتناع خلق أجسام وأنت تقول إن هذا برهان ، فإن لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلا.

التالي السابق


الخدمات العلمية