الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض قيل : إن الخطاب للمهاجرين يذكرهم بما كان من ضعفهم وقلتهم بمكة - وقيل : إنه للمؤمنين كافة في عهد نزول السورة ، يذكرهم بما كان من ضعف أمتهم العربية في جزيرتهم بين الدول القوية من الروم والفرس ، ولا مانع فيه من إرادة هذا وذاك معا . فقوله تعالى : تخافون أن يتخطفكم الناس أي: تخافون من أول الإسلام إلى وقت الهجرة أن يتخطفكم مشركو قومكم من قريش وغيرها من العرب ، أي أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم - كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم ، وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم . قال تعالى في أهل الحرم : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ ص: 532 ] ( 29 : 67 ) فآواكم يا معشر المهاجرين إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره في هذه الغزوة ، وسيؤيدكم على الروم وفارس وغيرهم كما وعدكم في كتابه بالإجمال وبينه لكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتصريح ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون هذه الثلاث وغيرها من نعمه ، فيزيدكم من فضله كما وعدكم بقوله : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( 14 : 7 ) .

                          وقد جاء في الدر المنثور من تفسير هذه الآية بالمأثور باختصار قليل ما نصه : أخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله : واذكروا إذ أنتم قليل الآية : " كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة ، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم ، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله - عز وجل - " .

                          وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : يتخطفكم الناس : في الجاهلية بمكة فآواكم إلى الإسلام ، وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس قيل : يا رسول الله ومن الناس ؟ قال : " أهل فارس " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : فآواكم قال : إلى الأنصار بالمدينة وأيدكم بنصره قال : يوم بدر اهـ .

                          ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة ، ولكن أعداءه - الجاحدين لهذا على علم - قد شوهوا تاريخه ، وصدوا الناس عنه بالباطل . وأن أهله قد هجروا كتابه ، وتركوا هدايته ، وجهلوا تاريخه ، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه ، حتى زعموا أنه هو سبب جهلهم وضعفهم ، وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه ، بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه . فإلى متى أيها المسلمون ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ! .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية