الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بيان ما أخطأ فيه نفاة القياس :

                          ( الخطأ الأول ) : رد القياس الصحيح ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن لعن عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر : " لا تلعنه ، فإنه يحب الله ورسوله " بمنزلة قوله : لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله ، وفي أن قوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس " بمنزلة قوله : ينهيانكم عن كل رجس ، وفي أن قوله تعالى : ( إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( 6 : 145 ) نهى عن كل رجس ، وفي أن قوله في الهرة : " ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " بمنزلة قوله : كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره : لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهى له عن كل طعام كذلك . وإذا قال : لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر نهى له عن كل مسكر ، ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة وأمثال ذلك .

                          ( الخطأ الثاني ) : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه . وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين ، فلم يفهموا من قوله : ( فلا تقل لهما أف ) ( 17 : 23 ) ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة ( أف ) فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان .

                          ( الخطأ الثالث ) : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم ، وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر [ ص: 141 ] أقسامه ومراتبها ، فالاستصحاب استفعال من الصحبة ، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا ، وهو ثلاثة أقسام : استصحاب البراءة الأصلية ، واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع .

                          أقول : وههنا أطال ابن القيم في بيان هذه الأقسام وأمثلتها ثم قال :

                          ( الخطأ الرابع ) : لهم اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ، وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة ، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه ، وهذا القول هو الصحيح ، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه .

                          فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم ، والفرق بينهما : أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ، فإن العبادة حقه على عباده ، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه ، وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها ، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين ، وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه ، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وعن تحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ، فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه ، وما سكت عنه عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها ، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال ، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود كلها . فقال تعالى : ( وأوفوا بالعهد ) ( 17 : 34 ) وقال : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ( 5 : 1 ) وقال : ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) ( 23 : 8 ) وقال تعالى : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) ( 2 : 177 ) وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( 61 : 2 ، 3 ) وقال : ( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ) ( 3 : 76 ) وقال : ( إن الله لا يحب الخائنين ) ( 8 : 58 ) وهذا كثير في القرآن اهـ .

                          ( أقول ) : ثم إنه أورد بعد هذا كثيرا من الأحاديث النبوية في هذا الموضوع وفيها [ ص: 142 ] ما هو عام وما هو خاص ، منها حديث أبي رافع الذي أرسله المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرجع إليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع إليهم ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع ، فذهب ثم عاد فأسلم " رواه أبو داود . وحديث حذيفة وأبي حسل اللذين أخذهما المشركون فلم يطلقوهما إلا بعد أن أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه لينصرفان إلى المدينة ولا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبيل غزوة بدر ، فلما أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال : " انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم " فلم يأذن لهما بالقتال معه . وقد استوفينا الكلام على مسألة الشروط في تفسير : ( أوفوا بالعقود ) ( 5 : 1 ) من أول السورة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية