الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          استدلالهم بالقرآن على القياس :

                          ( الدليل الأول ) : قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) وقد نقل عن المحصول للإمام الرازي رد الاستدلال بهذه الآية على القياس الفقهي من وجوه ، وبحث فيما اختاره من كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة ، ووافقه على كون الآية غير حجة للقياسيين فقال : " والحاصل : أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته " .

                          ( الدليل الثاني والثالث ) : قوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) ( 5 : 95 ) [ ص: 155 ] وقوله تعالى : ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ( 2 : 144 ) وهذان مما استدل به الإمام الشافعي في رسالته .

                          قال الشوكاني : ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هي المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما ، وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة . وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة ، فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها ، وليس ذلك من القياس في شيء .

                          ( الدليل الرابع ) : ما استدل به ابن سريج وهو قوله تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) قال الشوكاني : قالوا : أولو الأمر هم العلماء ، والاستنباط هو القياس . ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل من المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقييد أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص ، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه . ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصا بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه ، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع ، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به ، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به . اهـ .

                          أقول : وقد بينا في تفسير الآية أن أولي الأمر ليسوا هم علماء الفقه المعروف وأصوله ، بل هم أولو الحل والعقد من الأمة . فراجعه في محله .

                          ( الدليل الخامس ) : ما استدل به ابن سريج ، وهو قوله تعالى : ( يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) ( 2 : 26 ) قال : لأن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء ، فما جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز . واعتمد الشوكاني في رد هذا الاستدلال قلبه على صاحبه ببيان أن من لا تخفى عليه خافية ، فكل ما يضربه من مثل وما يثبته من تشبيه شيء بشيء يجب أن يكون صحيحا ، وأما من لا يخلو من النقص والجهل فلا نقطع بصحة ذلك منه ولا نظنه لما في فاعله من الجهالة والنقص .

                          وأقول : إن تقرير هذا الاستدلال هفوة من أكبر الهفوات ، بل سقطة من أقبح السقطات ، فإنه على كونه ليس من الموضوع في ورد ولا صدر عبارة عن قياس العبد على الرب ، وجعله أحق بالتشريع وأجدر ، وقد أطال ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة أمثال القرآن من سياقه الذي اختصرناه ، فيراجع في كتابه .

                          ( الدليل السادس ) : قوله تعالى في الرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم : ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) ( 36 : 79 ) [ ص: 156 ] قال الشوكاني : ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحدا ، وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما .

                          ( الدليل السابع ) : قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ( 16 : 90 ) وقد نسبه إلى ابن تيمية ( قال ) : وتقريره أن العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية . ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها ، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ، ونوع من أنواع الظنون الزائفة ، وخصلة من خصال الخيالات المختلة اهـ .

                          أقول : أخطأ الشوكاني ههنا وأصاب - أصاب فيما رمى إليه من كون الأمر بالعدل ليس دليلا على القياس الفقهي المعروف الذي يجعل كل ما يوزن في حكم النقدين من الذهب والفضة ، وكل ما يكال في حكم البر والشعير والتمر والملح ، ويجعل مسبر الجراح مفطرا للصائم كالطعام والشراب ، وأخطأ مراد ابن تيمية من القياس والعدل إذ يظهر أنه لم يطلع على ما كتبه هو ثم تلميذه ابن القيم في ذلك وهو عين ما سلم دلالة الآية عليه ، وسنعود إلى ذكر مذهبهما فيه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية