الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 199 ] ( إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة ) .

                          قد تبين مما فصلناه أن الذين عدوا الآيتين في غاية الصعوبة لمخالفة مذاهبهم لهما مخطئون وأن الواجب رد المذاهب إليهما لا تأويلهما لتوافقا المذاهب . وأما الذين استشكلوا إعراب جملة من الآية الثانية ، وعدوا لأجلها الآية أو الآيات في غاية الصعوبة ، فإنما أوقعهم في ذلك احتمال التركيب لعدة وجوه من الإعراب بما فيه من تعدد القراءات ، مع اعتيادهم تقديم الإعراب على المعنى وجعله هو المبين له ، وقد استحسنا بعد إيضاح تفسير الآيات بما تقدم أن نذكر ملخص ما قيل في إعراب تلك الجملة نقلا عن ( روح البيان ) الذي يلتزم تحقيق المباحث النحوية في الآيات ، عسى أن يستغني القارئ به عن مراجعة تفسير آخر ، ونبدأ بجواب الشرط لأنه مبدأ ما استشكلوه من الإعراب . قال المؤلف رحمه الله تعالى :

                          ( فآخران ) أي فرجلان آخران وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : ( يقومان مقامهما ) والفاء جزائية وهي إحدى مسوغات الابتداء بالنكرة ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه : ( من الذين استحق عليهم الأوليان ) وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران ، وجملة يقومان صفته ، والجار والمجرور صفة أخرى . وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من ضمير ( يقومان ) وقيل : هو فاعل فعل محذوف أي : فليشهد آخران . وما بعده صفة له ، وقيل : مبتدأ خبره الجار والمجرور والجملة الفعلية صفته وضمير ( مقامهما ) في جميع الأوجه مستحق للذين استحقا ، وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف . و " استحق " بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم ، وفاعله ( الأوليان ) والمراد من الوصول أهل الميت ، ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما ، وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثما ، إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف ، ومفعول " استحق " محذوف واختلفوا في تقديره ، فقدره الزمخشري أن يجردهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين ، وقدره أبو البقاء وصيتهما ، وقدره ابن عطية : ما لهم وتركتهم . وقال الإمام : إن المراد بالأولياء الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما ، وسبب أولويتهما : أن الميت عينهما للوصية ، فمعنى " استحق عليهم الأوليان " خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان [ ص: 200 ] عثر على خيانتهما ، وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول ، وقرأ الجمهور : " استحق عليهم الأوليان " ببناء استحق للمفعول واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم والمراد من الموصول الورثة; لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ، ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة ، وقيل : إنه الإيصاء ، وقيل : الوصية لتأويلها بما ذكر ، وقيل : المال ، وقيل : إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور ، وكذا اختلفوا في توجيه رفع ( الأوليان ) فقيل : إنه مبتدأ خبره ( آخران ) أي ( الأوليان ) بأمر الميت آخران ، وقيل بالعكس ، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله ، وقيل : خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني ، وقيل : بدل من آخران ، وقيل : عطف بيان عليه ، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه حتى من جوز تنكيره ، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط ، وقيل : هو بدل من فاعل يقومان ، وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطا وقيل : هو صفة آخران وفيه . وصف النكرة بالمعرفة ، والأخفش أجازه هنا; لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل : وهذا على عكس

                          ولقد أمر على اللئيم يسبني

                          فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة . وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة ، أو جعلت في حكمها للوصف ، ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة ، وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل " استحق " والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري ، أو إثم الأوليين كما قيل ، وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها ، وفي على في " عليهم " أوجه : الأول : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى في ، والثالث : أنها بمعنى من ، وفسر استحق بطلب الحق وبحق وغلب ، وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه " استحق عليهم الأولين " ببناء استحق للمفعول والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة الذين أو بدل منه أو من ضمير عليهم أو منصوب على المدح . ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة ، وقيل : التقدم في الذكر لدخولهم في ( يا أيها الذين آمنوا ) ، وقرأ الحسن " الأولان " بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان ، وقرئ " الأولين " بالتثنية والنصب ، وقرأ ابن سيرين " الأوليين " بياءين ، تثنية أولى منصوبا ، وقرأ " الأولين " بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين ، وإعراب ذلك ظاهر اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية