الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمتفلسفة منهم من يقول: يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج، كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الأفلاطونية، ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات، وأن الكلي المطلق جزء من المعين الجزئي، كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق.

وكلا القولين خطأ صريح، فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه إلا شيء معين مختص لا شركة فيه أصلا، ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن، كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان، وكالخط الدال على تلك الألفاظ، [ ص: 217 ] فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى، فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها، لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا، أو يوجد في هذا وهذا، أو يشترك فيه هذا وهذا، فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول: وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية، أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه.

ومن علم هذا علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات، مثل الكليات الخمس: الجنس، والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض العام.

وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية، وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل، وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية، ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا، وإثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود، وأمثال ذلك من أغاليطهم التي تقود من اتبعها إلى الخطأ في الإلهيات، حتى يعتقد في الموجود الواجب أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله، مع العلم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج، فيكون الواجب الوجود ممتنع الوجود. [ ص: 218 ]

وهذا الكفر المتناقض وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلى الزندقة، وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيق المنطق وحقيقة لوازمه، ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوت حق ولا انتفاءه، وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر، وليس الأمر كذلك، بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك: 10] .

والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضوع، وإنما يلتبس ذلك على كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والاشتراك والإبهام، فإذا فسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة، كما سننبه على ذلك إن شاء الله تعالى.

والغرض هنا: أن الأمر بالشيء الذي له لوازم لا توجد إلا بوجوده، سواء كانت سابقة على وجوده أو كانت لاحقة لوجوده، قد يكون الآمر قاصدا للأمر بتلك اللوازم، بحيث يكون آمرا بهذا وبهذا اللازم، وأنه إذا تركهما عوقب على كل منهما، وقد يكون المقصود أحدهما دون الآخر، وكذلك النهي عن الشيء الذي له ملزوم، قد يكون قصده أيضا ترك الملزوم لما فيه من المفسدة، وقد يكون تركه غير مقصود له، وإنما لزم لزوما.

ومن هنا ينكشف لك سر مسألة اشتباه الأخت بالأجنبية، والمذكى بالميت، ونحو ذلك مما ينهى العبد فيه عن فعل الاثنين لأجل الاشتباه. فقالت طائفة: كلتاهما محرمة، وقالت طائفة: بل المحرم في نفس الأمر الأخت والميتة، والأخرى [ ص: 219 ] إنما نهي عنها لعلة الاشتباه، وهذا القول أغلب على فطرة الفقهاء، والأول أغلب على طريقة من لا يجعل في الأعيان معاني تقتضي التحليل والتحريم، فيقول: كلاهما نهي عنه، وإنما سبب النهي اختلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية