الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله: «إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات» كلام صحيح على قول من يقول: «إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان، بل يتعقبه» لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة، لا نفس المؤثر.

والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله، والمبدع وإبداعه، والمقتضي واقتضائه، والموجب وإيجابه، وهو كالفرق بين الضارب وضربه، والعادل وعدله، والمحسن وإحسانه، وهو فرق ظاهر.

لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر، كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر: [ ص: 347 ] ليس بمستقيم.

فإن كون الشيء مؤثرا في غيره لا يكون متأخرا عن أثره، بل إما أن يكون مقارنا له، أو سابقا عليه، وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع، ولا يحتاج إلى هذا التقدير، فإن كون التسلسل ها هنا واقعا في الآثار: أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس، فضلا عن أن يدل عليه بهذا الدليل.

والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم، والأثر حادث.

وهذا قول من يثبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل، وإن كان المخلوق حادثا.

وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الكلام والصوفية، وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق، وهذا قول أكثر الطوائف، لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث، ومنهم من صرح بتجدد الأفعال، ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك.

فالذي ذكره البغوي عن أهل السنة: إثبات صفة الخلق لله تعالى، وأنه لم يزل خالقا، وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب «التعرف لمذهب التصوف» أنه مذهب الصوفية، وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة، وهو [ ص: 348 ] قول جمهور أصحاب أحمد، كأبي إسحاق بن شاقلا، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي يعلى وغيرهم، وكذلك ذكره غير واحد من المالكية، وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء من صرح بمعنى الحركة لا بلفظها.

وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر، يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد، كما يقول بذلك الكلابية وغيرهم من الصفاتية.

فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف، وهو قوله: الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها، كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك، وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر، دون المقدور، فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير.

ولكن هذا الجواب ضعيف، فإن قوله: «الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى التأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر» يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي، فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها [ ص: 349 ] وهذه دعوى كلية، ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم، وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية.

ونظير هذا قولهم: ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية، فإنه ليس لكون الشيء مذكورا أو مخبرا عنه صفة ثبوتية بذلك، فإن المعدوم يقال: إنه مذكور ومخبر عنه، فإن هذه دعوى، والمثال جزئي.

والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية، كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب، وقد يكون، كمتعلق الإخبار.

التالي السابق


الخدمات العلمية