الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 404 ] فإن قال قائل: المنازعون لنا الذين يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء، أو لم يزل فاعلا إذا شاء، أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئا بعد شيء، ونحو ذلك، هم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئا بعد شيء، فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء: إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية، وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة، فلم كان قولنا ممتنعا وقولهم ممكنا؟.

قيل لهم: أنتم قلتم: إنه مؤثر تام، أو علة تامة في الأزل، فلزمكم أن لا يتأخر عنه شيء من آثاره، سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط.

فإذا قلتم: صدر عنه عقل - مثلا - والعقل أوجب نفسا فلكية وفلكا، أو ما قلتم.

قيل لكم: المعلول الأول إن كان تاما من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء - فهو أزلي - كان معلوله العقل معه أزليا، فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل، فيلزم أن يكون معلوله معه أزليا، وهكذا معلول المعلول، هلم جرا.

وإذا قلتم: الحركة لا تقبل البقاء.

قيل لكم: فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل، بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل، بل صار موجبا، وحدوثه كونه موجبا يمتنع أن يتوقف على أثر غيره، إذ ليس هناك موجب غيره.

ويمتنع أن يحدث تمام [ ص: 405 ] إيجابه منه؛ لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل، فذلك التمام: إن كان قديما لزم كون معلول المعلول قديما، وهلم جرا، وإن كان حادثا حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث، وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب.

فأنتم بين أمرين، أيهما قلتموه بطل قولكم: إن قلتم: (إنه علة تامة في الأزل) ، لزم أن لا يتأخر عنه معلوله.

وإن قلتم: (ليس بعلة تامة) لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث، فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب.

وأيهما كان بطل قولكم، فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم، وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم، وجاز حدوث كل ما سواه.

وإذا قلتم: هو علة تامة للفلك دون حركاته.

قيل لكم: هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئا بعد شيء، فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل، أم حدث تمام كونه علة لها شيئا بعد شيء؟.

فإن قلتم: هو علة تامة في الأزل، لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل، وإما تخلف المعلول عن علته التامة، وكلاهما يبطل قولكم.

وإن قلتم: حدث تمام كونه علة لحركة حركة منها.

قيل لكم: فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث، وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب، وهذا أمر بين لمن تصوره تصورا تاما، ليس لهم حيلة في دفعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية