الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 190 ] فصل

                                                                                                                                                                        إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها ، لزمه منعه ودفعه ، فإن هلك في الدفع ، فلا شيء عليه ، وإن اندفع بضرب غيره ثم قتله ، لزمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنا ، فإن كان ، فلا قصاص على الصحيح ، وقد سبق في الجنايات ، وإذا قال : قتلته لذلك ، وأنكر وليه ، فعلى القاتل البينة ، وينظر إن ادعى أنه قصد امرأته ، فدفعه فأتى الدفع على نفسه ، ثبت ذلك بشاهدين ، وإن ادعى أنه زنى بها وهو محصن ، لم يثبت الزنى إلا بأربعة ، فإن لم يكن بينة ، حلف ولي القتيل على نفي العلم بما يقوله ، ومكن من القصاص ، ولو كان للقتيل وارثان ، فحلف أحدهما ، ونكل الآخر ، حلف القاتل للآخر ، وعليه نصف الدية للحالف ، وإن كان أحدهما بالغا ، والآخر صغيرا ، وحلف البائع لم يقتص حتى يبلغ الصغير ، فيحلف ، أو يموت ، فيحلف وارثه ، وإن أخذ البالغ نصف الدية حكى الروياني أنه يؤخذ للصغير أيضا ، فإذا بلغ ، حلف ، فإن نكل وحلف القاتل ، رد عليه ما أخذ ، ولو أقر الورثة أن مورثهم كان معها تحت ثوب يتحرك تحرك المجامع وأنزل ، ولم يقروا بما يوجب الحد ، لم يسقط القصاص ، وإن أقروا بما يوجبه وقالوا : كان بكرا ، فالقول قولهم ، وعلى القاتل البينة بالحصان ، ولو أخرج سارق المتاع من حرزه ، ثم ألقاه وهرب ، لم يكن له أن يتبعه فيضربه ، فإن تبعه ، فقطع يده التي وجب قطعها بالسرقة ، فلا قصاص ؛ لأنها مستحقة الإزالة ، وكذا في قطع الطريق إذا قطع ما وجب قطعه منه لا قصاص ، لكن يعزر لافتئاته ، ويجيء في وجوب القصاص الخلاف السابق في الزاني المحصن ، ولو وجب الجلد على زان ، فجلده واحد من الناس ، لم يقع حدا إلا بإذن الإمام بخلاف القطع ، وفي تعليق إبراهيم المروذي وجهان فيمن جلد رجلا ثمانين ، وقال : كان قذفني ، وأقام بينة به ، هل يحسب ذلك عن [ ص: 191 ] الحد ؟ وبني على الوجهين أنه إن عاش هل يعاد الحد ، وإن مات هل يجب القصاص على الضارب ؟

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا نظر إلى حرمة إنسان في داره من كوة ، أو ثقب ، أو شق باب ، فنهاه صاحب الدار ، فلم ينته ، فرماه بحصاة ونحوها ، فأصاب عينه فأعماه ، أو أصاب قريبا من عينه فجرحه ، فلا ضمان ، وإن سرى إلى النفس لم يضمن ، قال الشافعي - رحمه الله - : ولو ثبت المطلع ، ولم يندفع بعد رميه بالشيء الخفيف ، استغاث عليه صاحب الدار ، فإن لم يكن في موضع غوث ، قال : أحببت أن ينشده بالله تعالى ، فإن لم يندفع ، فله ضربه بالسلاح ويناله بما يردعه ، فإن أتى على نفسه ، فلا ضمان ، ولو لم ينل منه صاحب الدار ، عاقبه السلطان ، وسواء كان وقوف الناظر في الشارع أو في سكة منسدة الأسفل ، أو في ملك نفسه ، إذ ليس للواقف في ملكه مد النظر إلى حرم الناس ، وعن القاضي حسين وجه ضعيف : أنه ليس له قصد عينه إذا وقف في الشارع ، أو ملك نفسه ، وإنما يقصده إذا وقف في ملك المنظور إليه وليس بشيء ، ثم إنما يرمي عينه إذا قصد النظر والتطلع ، أما إذا كان مخطئا ، أو وقع بصره اتفاقا ، وعلم صاحب الدار الحال ، فلا يرميه ، فلو رماه ، وقال الناظر : لم أكن قاصدا ، أو لم أطلع على شيء ، فلا شيء على الرامي ؛ لأن الاطلاع حاصل ، وقصده أمر باطن لا يطلع عليه ، وهذا ذهاب إلى جواز الرمي من غير تحقق قصده ، وفي كلام الإمام ما يدل على أنه لا يرمي حتى يتبين الحال ، وهو حسن .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        هل يجوز رميه قبل إنذاره ؟ وجهان ، أحدهما يحكى عن الشيخ أبي حامد والقاضي حسين : لا ، بل ينذره ويزجره ويأمره بالانصراف ، [ ص: 192 ] فإن أصر ، رماه ، جريا على قياس الدفع بالأهون ، ولأنه قد يكون له عذر ، وأصحهما وبه قال الماسرجسي ، والقاضي أبو الطيب ، وجزم به الغزالي : يجوز رميه قبل الإنذار ، واستدل صاحب " التقريب " بجواز الرمي هنا قبل الإنذار على أنه لا يجب تقديم الكلام في دفع كل صائل ، وأنه يجوز للمصول عليه الابتداء بالفعل ، قال الإمام : مجال التردد في كلامه هو موعظة قد تفيد وقد لا تفيد ، فأما ما يوثق بكونه دافعا من تخويف وزعقة مزعجة ، فيجب قطعا ، وهذا أحسن ، وينبغي أن يقال : ما لا يوثق بكونه دافعا ، ويخاف من الابتداء به مبادرة الصائل لا يجب الابتداء به قطعا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ليكن الرمي بشيء خفيف تقصد العين بمثله ، كبندقة وحصى خفيفة ، أما إذا رشقه بنشاب ، أو رماه بحجر ثقيل ، فيتعلق به القصاص والدية ، لكن لو لم يمكن قصد عينه ، أو لم ينزجر ، فيستغيث عليه ويدفعه بما أمكنه كما سبق ، ولا يقصد رمي غير العين إذا أمكنه إصابتها ، فإن لم يمكن ، فرمى عضوا آخر ، ففي " التهذيب " حكاية وجهين فيه ، ونقل أنه لو أصاب موضعا بعيدا عن عينه بلا قصد ، فلا يضمن على الأصح ، والأشبه ما ذكره الروياني أنه إن رماه ، فأصاب غير العين ، فإن كان بعيدا لا يخطئ من العين إليه ، ضمن ، وإن كان قريبا يخطئ إليه ، لم يضمن .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كان للناظر محرم في الدار ، أو زوجة ، أو متاع ، لم يجز قصد عينه ؛ لأن له في النظر شبهة ، وقيل : لا يكفي أن يكون له في الدار محرم ، بل لا يمنع قصد عينه إلا إذا لم يكن في الدار إلا محارمه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 193 ] والصحيح الأول ، ولو كان الناظر محرما لحرم صاحب الدار ، فلا يرمي إلا أن تكون متجردة ، إذا ليس للمحرم النظر إلى ما بين السرة والركبة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو لم يكن في الدار حرم ، بل كان فيها المالك وحده ، فإن كان مكشوف العورة ، فله الرمي ولا ضمان ، وإلا فوجهان ، أصحهما : لا يجوز رميه ، والثاني : يجوز ؛ لأن من الأحوال ما يكره الاطلاع عليه ، ولو كان الحرم في الدار مستترات بالثياب ، أو في بيت ، أو منعطف لا يمتد النظر إليهن ، فهل يجوز قصد عينه ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، لعموم الأحاديث ، ولأنه يريد سترهن عن الأعين وإن كن مستورات بثياب ، ولأن الحرم في الدار لا يدرى متى يسترن وينكشفن ، فيحسم باب النظر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كان باب الدار مفتوحا ، فنظر منه ، أو من كوة واسعة ، أو ثلمة في الجدار ، فإن كان مجتازا ، لم يجز رميه ، وإن وقف ونظر متعمدا ، لم يجز رميه أيضا في الأصح ، لتفريط صاحب الدار ، ولو نظر من سطح نفسه ، أو نظر المؤذن من المنارة ، جاز رميه في الأصح ، إذ لا تفريط من صاحب الدار ، ولو وضع الأعمى عينه على شق الباب ، فرماه ، ضمن ، سواء علم عماه أم لا ، ولو نظرت المرأة أو المراهق ، جاز رميهما على الأصح ، ولو قعد في طريق مكشوف العورة ، فنظر إليه ناظر ، لم يجز له رميه ؛ لأنه الهاتك حرمته ، قال ابن المرزبان : لو دخل مسجدا ، وكشف عورته ، وأغلق الباب أو لم يغلقه ، فنظر إليه إنسان ، لم يكن له رميه ؛ لأن الموضع لا يختص به ، ولو كانت الدار ملكا للناظر ، قال السرخسي : [ ص: 194 ] إن كان من فيها غاصبا ، لم يكن له الرمي ، وإن كان مستأجرا ، فله ذلك ، وفي المستعير وجهان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو انصرف الناظر قبل الرمي إليه ، لم يجز أن يتبعه ويرميه ، كالصائل إذا أدبر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو دخل دار رجل بغير إذنه ، فله أمره بالخروج ودفعه ، كما يدفعه عن سائر أمواله ، والأصح أنه لا يدفعه قبل الإنذار ، كسائر أنواع الدفع ، وبه قال الماسرجسي ، ثم هل يتعين قصد رجله لكون الدخول بها كما يتعين قصد العين في النظر ، أم لا يتعين ؛ لأنه دخل بجميع البدن ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، وهل يجوز قصد العين ؟ وجهان ، قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة والطبري : يجوز ؛ لأنه بأول الهجوم متطلع ، ومنهم من منعه ، والأصح : أن له دفعه بما يتيسر ، ولا يتعين قصد عضو بعينه ، ولا يمتنع قصد عضو . ودخول الخيمة في الصحراء ، كالدار في البنيان ، ولو أخذ المتاع وخرج ، فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن يطرح متاعه ، ولو قتله وقال : قتلته ، لأنه كابر ولم يخرج ، وأنكر الولي فهو المصدق ، وعلى القاتل البينة ، وإن قال : قتلته ؛ لأنه قصدني ، فكذلك ، وقد ذكر أنه يحتاج إلى بينة بأنه دخل داره مقبلا شاهرا سلاحه ، ولا تكفي بينة بأنه دخل داره بسلاح من غير شهر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو وضع أذنه على شق الباب ، أو وقف على الباب يتسمع ، لم يجز رمي أذنه ، إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات ، وقال الإمام : وفي بعض التعاليق عن شيخي وجه ، ولا أثق بالمعلق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية