الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 415 ] وإن قيل: بل حدث له أمر به صار فاعلا لما يحدث في النفس. سئل عن سبب حدوث ذلك.

وإذا قيل: الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد.

قيل: فذلك الاستعداد حادث، والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره، فلا بد من أحد أمرين: إما حدوث الحوادث بلا سبب حادث، وإما حدوث الحوادث عن متحرك، وأيهما كان بطل قولهم. والأول يقولون إنه معلوم البطلان بالضرورة، فيلزمهم الثاني، فقد ألزم مناظريه ما يلزمه هو أشد منه، وتبين به أن قول إخوانه أشد فسادا، فإنه قال: والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال فاعل أول، وإنزال فعل له أول، لأنهم لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل، فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة [ ص: 416 ] لم تكن، وذلك ضرورة إما في الفاعل، أو في المفعول، أو في كليهما، وإذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة، إذا أوجبنا أن لكل حال متجددة فاعلا، لا بد أن يكون الفاعل لها: إما فاعلا آخر، فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول، ولا يكون مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره، وإما أن يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه، فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا عنه أولا، بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول.

قال: «وهذا لازم -كما ترى- ضرورة، إلا أن يجوز مجوز أن من الأحوال الحادثة في الفاعلين ما لا يحتاج إلى محدث. وهذا بعيد إلا على قول من يجوز أن ههنا أشياء تحدث من تلقائها، وهو قول الأوائل من القدماء الذين أنكروا الفاعل، وهو قول بين سقوطه بنفسه».

فيقال له: أنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث، وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة، وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل [ ص: 417 ] الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية. فيقال له: أنت يلزمك ما هو أشد من هذا، وهو حدوث الحوادث بلا فاعل، وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط، وذلك أن الحوادث المشهودة إن قلت: لا فاعل لها. فقد لزمك هذا القول، وإن قلت: لها فاعل. قيل لك: أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته؟ أم لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته؟.

فإن قلت بالأول قيل لك: فهي دائمة أو لها ابتداء؟ فإن قلت: لها ابتداء. فهذا قول منازعيك. وإن قلت: لا ابتداء لها. فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه، وقد قلت: إنه لا يمكن أن يكون حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل، فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله، فإن الحوادث مختلفة، فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث، لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير، فتلك حوادث لا نظير لها، ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره، وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك، كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية. [ ص: 418 ]

وإن قلت: بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث.

قيل لك: الفاعل له: إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل، وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك.

التالي السابق


الخدمات العلمية