الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها: وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول، وكل تام بغيره معلول. ولقد أحسن فيما قال وأصاب، إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه، الذي ارتفعت عنه بغيره، الذي لولاه لم يعرف، فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره، إلى من ارتفعت عنه علة المجهول، والغير علة، والعلة لا تصحب إلا معلولا. [ ص: 507 ]

قلت: وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي، فقال: (المعنى: أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو، وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو، فصار زيد مفتقرا إلى وجود عمرو واسمه، لزوال الجهالة عنه به وباسمه، والمعنى: أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها، بخلاف الواحد الذي لا نظير له، ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها، بل العباد مفتقرون إليه وإلى معرفته) .

قال: وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية، فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره، بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه) .

قال الشيخ أبو محمد بن عبد: (فعز ربنا أن يقوم بالعلل، فيصير دليلا بعد ما كان مدلولا) . هكذا رأيته في الكتاب، وإنما أراد: (فيصير مدلولا بعد ما كان دليلا) .

قال: (وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة: أنا الدال على نفسي، ولا دليل أدل علي مني. وقد روي: كنت كنزا لا أعرف، فأحببت أن أعرف، فأظهرت خلقا وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني. وهذا نص بإزالة العلل، لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره، كان [ ص: 508 ] إثباته تخييرا، وتلك علل الحوادث، فهو الثابت بثباته، المعروف بنفسه، لم يعرف من بعد جهل، إذ ذاك تغيير عن الأزل، فهو المعروف أزليا، والعارفون محدثون، كما أنه إله لم يزل، والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون، ولا يجوز على الإلهية تغيير، ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث، وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك، وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة، فتلزم مكلفا وغير مكلف) .

قال: (والفصل الثاني: معرفة الربوبية، وهي خاصة للمكلفين من بني آدم، وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم، وهي ضرورية أيضا، وهي عن رؤية، وهي قوله سبحانه: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى [سورة الأعراف:172]، وهذا في غير وقت الكسب والتكليف، فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف، فأقر الكل له بتلك المعرفة، إذ عاينوه جبارا قهارا، وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد، لأنها إقرار للضرورة، وليس للكافر فيها اختيار، إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها، كما جحد معرفة التوحيد، ولو كانت كسبية لوقع له بها [ ص: 509 ] إيمان وثواب، بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده، قال تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [سورة النحل:53].

وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله. قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [سورة لقمان:25]، وقال سبحانه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [سورة الزخرف:87]، مع آيات كثيرة، وذلك موجود منهم ضرورة، وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه، ويقولون: إلهنا القديم والعتيق، وإله الآلهة، ورب الأرباب، وغير ذلك، مع كفرهم.

فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها، وهو قوله تعالى: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها [سورة آل عمران:83]، وقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها [سورة الروم:30]، يعني: معرفة ربوبيته.

التالي السابق


الخدمات العلمية