الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 45 ] وكذلك القضايا الحسابية، كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك، هو ضروري لمن علمه، فإذا أخبر أهل تواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك، وإن كانوا إنما أخبروا عن علم ضروري.

وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب، يعلمه من باشره وجربه ضرورة، ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر. ولهذا كان العلم بأن محمدا -صلى الله عليه وسلم-، كان صادقا معروفا بالصدق لا يكذب متواترا عند من لم يباشره، لأن الذين جربوه من أعدائه وغيرهم كانوا متفقين على أنه صادق أمين، حتى أن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان حين سأله من أشد الناس عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. فأخبر أنه - هو وغيره من قريش - لم يكونوا يتهمونه بالكذب، فضلا عن أن يخبروا عنه بالكذب، وكانوا يسمونه الأمين.

ولما كان أبو سفيان مخبرا بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك، مع قيام المقتضي للتكذيب لو كان قد كذب، استفاد هرقل بهذا أنه لا يكذب. فقال: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

وهذا وأمثاله باب واسع، فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالما بالضرورة، سواء كان المخبر به مشاهدا أو لم يكن. [ ص: 46 ]

وأما طريقة الإلهام، فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب، هو عند أهله علم ضروري، لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض، فلا يمكن أن يكون باطلا.

وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام، فتلك مسألة أخرى، ليس هذا موضعها، والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما، وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان، قد يعنيه هذا بالإلهام. وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع، فإن هذا باطل، بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها.

وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهاما، فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل.

فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرقها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيا عاما لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل.

نعم، من نفى تلك بحسب علمه، لم ينازع في ذلك. فإذا قال: لا أعلم طريقا آخر، أو لم يحصل لي ولمن عرفته طريق آخر، كان نافيا لعلمه ولما علم وجوده، لا نافيا للأمور المحققة في نفس الأمر. [ ص: 47 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية