الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الرابع

أن يقال: هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج، لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات، وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة.

الوجه الخامس

أن يقال: المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح، لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم، والمانع زائل، إذ يجب وجود مقتضاه.

والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب منفصل على وجود المقتضي التام في الفطرة، وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه.

وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد، فإن هذا [ ص: 464 ] ممتنع، بل إن الفطرة تقتضي وجوده، كما تقتضي فطرة الصبي شرب لبن أمه، فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب. لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك، يوجب نفوره عن شرب لبنها. وحب العبد لربه هو مفطور فيه، أعظم مما فطر فيه حبه للبن أمه.

قال الله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا [سورة البقرة:200]، فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة، لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج، وهو خلاف الواقع، ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة، لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها، والثاني ممتنع، فتعين الأول.

الوجه السادس

أن السبب الذي في الفطرة: إما أن يكون مستلزما للمعرفة والمحبة، وإما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام، وعلى التقديرين يحصل المقصود.

الوجه السابع

أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو ممتنع فيها. فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه، وعن محبته وعدم محبته. وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها، ولو لم يكن لها معارض، بل هذا باطل. [ ص: 465 ]

وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة من لوازم ذاتها، لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة.

ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: « أصدق الأسماء الحارث وهمام» ، وهي حيوان، وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة، وهو ممتنع، كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية، بل أولى.

التالي السابق


الخدمات العلمية