الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 186 ] وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديما أزليا ضروريا واجبا بغيره، وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلا وأبدا، ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا، وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غير سلفه.

وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن، الذي يمكن وجوده وعدمه، لا يكون إلا محدثا، وأن الدائم القديم الأزلي لا يكون إلا ضروريا، لا يكون محدثا.

وابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك، كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع، كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، من كتابه المسمى "بالشفاء" وغيره.

لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن، والممكن عندهم هو الحادث، سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم، وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي، ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع: من أن الممكن لا يكون إلا محدثا. وكان ما ذكره هؤلاء، وسائر العقلاء، دليلا على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن، لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجودا بنفسه إلا الله وحده، وأن كان ما سواه مفتقر إليه.

وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلا لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه، وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلا لما ذكره أرسطو وأتباعه، وابن رشد أيضا، [ ص: 187 ] من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم، فإنه محتاج إلى غيره، وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول، لأنه لا قوام له إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا بالأول، فكان لا وجود له إلا بالأول، فامتنع أن يكون وجوده بنفسه، بل كان معلولا بغيره، وما كان معلولا بغيره لم يكن موجودا بنفسه، بل كان ذلك الأول علة في وجوده، وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه، علم بصريح العقل أنه ليس موجودا بنفسه، فلا يكون واجبا بنفسه، وما لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا، وكان محدثا، كما قد بسط في مواضع.

إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد، وابن رشد يقول: إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وما كان أزليا واجبا بغيره دائما - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكنا، بل الممكن ما كان معدوما يقبل الوجود، وأما ما لم يزل واجبا بغيره فليس هو بممكن.

وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه، وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء، وأن طريقه التي أثبت به [ ص: 188 ] واجب الوجود، بناء على هذا الأصل، إنما هو إقناعي لا برهاني، كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. (وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود، فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب، وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي، فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث) .

قال: (وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية