الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: أما تقسيم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة له، فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات، لا يمكن المنازعة فيه، كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما يقوم بنفسه، وإلى ما لا يقوم بنفسه، وإلى ما هو موجود بنفسه، وما ليس موجودا بنفسه، ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات. فهذا تقسيم حاصر، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات، وهما النقيضان. كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا.

لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم: أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري، هو الذي ليس بينا بنفسه، ولم يقيموا عليه دليلا، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه، بل [ ص: 175 ] الدليل يدل على بطلانه. ولهذا ظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم.

قال ابن رشد: (ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري، ولم يفض إلى ضروري لا علة له، وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة، وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة، وأن يمر ذلك إلى غير نهاية. فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود. إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية) .

فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة، ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإذا أراد بالممكن: الممكن الحقيقي، وهو الحادث، وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة، فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث. ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له، وهو واجب الوجود، لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين، بل لا بد من دليل يدل على ثبوتهما، [ ص: 176 ] وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة، كما لو قيل: الوجود ينقسم إلى ما هو ثابت، وإلى ما ليس بثابت، أو ينقسم إلى قديم وحادث، وما ليس بقديم ولا حادث، أو ينقسم إلى واجب وممكن، وما ليس بواجب ولا ممكن.

فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات، لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام. وإذا قيل: ينقسم إلى معلول وغير معلول. وقيل: المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضروريا، كان غايته إذا أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث: إثبات القسمين: الضروري والحادث، أو إثبات ضروري معلول، ليس فيه إثبات ضروري ليس بمعلول، وهو واجب الوجود بنفسه، فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه، فكيف وليس فيه أيضا إثبات ضروري معلول، وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري؟.

ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين، فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول، إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك، ولا استدل بالحدوث ألبتة، وهو الممكن الحقيقي، وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه، وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم، وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن. [ ص: 177 ]

فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه، قالوا: (والقديم - الذي سموه ممكنا - يفتقر إلى واجب بنفسه) . وهذا ليس بينا، وعامة العقلاء ينازعونهم فيه، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه.

فهذا الذي سموه ممكنا هو قديم أزلي ضروري الوجود، ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه، وهو أيضا ليس بثابت، فلم يثبتوا هذا الممكن، ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن، فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن، ولا ما ادعوه من الواجب.

التالي السابق


الخدمات العلمية