الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن جوز تسلسل الحوادث، وقال: كل منها حادث والنوع ليس بحادث، لا يمكنه أن يقول: كل من الممكنات ممكن، والجملة ليست ممكنة، كما لا يمكنه أن يقول: كل من الموجودات موجود، والجملة ليست موجودة، ولا يقول: كل من الممتنعات ممتنع، والجملة ليست ممتنعة، بل الامتناع لجملة الممتنعات أولى منه لآحادها، وكذلك الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها، والفقر إلى الصانع الذي يستلزمه الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها، وأما الوجود لجملة الموجودات فليس هو أولى منه لآحادها. [ ص: 200 ]

وإن قيل: هو واجب للجملة، وذلك أن جملة الموجودات موقوفة على وجود كل منها، بخلاف وجود الواحد منها، فإنها لا تتوقف على وجود الجملة. وأما الممتنعات فامتناع جملتها ليس موقوفا على امتناع كل منها، بل كل منها ممتنع لذاته، فامتناع الجملة لذاتها أولى وأحرى، اللهم إلا أن يكون الامتناع مشروطا بأفرادها، كالمتلازمين اللذين يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، ولا يمتنع اجتماعهما.

وكذلك الممكنات إذا كان كل منها ممكنا لذاته بحيث يفتقر إلى الفاعل ولا يوجد بنفسه، فليس إمكان كل منها مشروطا بالآخر ولا معلقا به، ولا لإمكان هذا تأثير في إمكان هذا، كما في الامتناع، بخلاف الموجودات، فإنه قد يكون وجود أحد الأمرين إما مشروطا وإما علة للآخر.

بخلاف ما إذا قدر موجودات واجبة بأنفسها، فإنه حينئذ لا يكون وجود بعضها موقوفا على وجود البعض، وأما ما هو ممكن بنفسه أو ممتنع بنفسه، فليس إمكانه وامتناعه مشروطا بغيره، بل نفس تصور حقيقته يوجب العلم بامتناعه وإمكانه.

وحينئذ فكلما كثر أفراد هذه الحقيقة كان العلم بامتناعها أو إمكانها [ ص: 201 ] أكثر، والعلم بامتناع الجملة أو إمكانها أولى وأحرى، ولو قدرنا واجبات بأنفسها غنية عن الغير، بحيث لا يكون بعضها شرطا في البعض، لكانت الجملة واجبة، ولم يكن وجوبها بدون وجوب الآحاد، وامتنع أن يقال: الجملة ممتنعة أو ممكنة مع وجوب كل من الآحاد بنفسه وجوبا لا يقف فيه على غيره.

فتبين أنه إذا كان من الأمور ما هو ممكن في نفسه، لا يقف إمكانه على غيره، ومعنى إمكانه أنه لا يستحق بنفسه وجودا ويمتنع وجوده بنفسه، وهو بالنظر إلى نفسه فقير محض، أي الفقر الذاتي الذي يمتنع معه غناه بنفسه، وسواء قلنا: إن عدمه لا يفتقر إلى مرجح، أو قلنا: إن عدمه لعدم المرجح، وقدرنا عدم المرجح، فهو في الموضعين لا يستحق إلا العدم، لا يستحق وجودا أصلا.

فكثرة مثل هذا، وتقدير ما لا يتناهى من هذا الضرب، لا يقتضي حصول وجود له، أو غنى في وجوده عن غيره، ولا وجود بعض هذه الأمور ببعض، فإن كثرة هذه الأمور التي لا تستحق إلا العدم توجب كثرة استحقاقها للعدم، وكثرة افتقارها إلى موجد يكون موجودا بنفسه.

فإذا قدر أمور لا نهاية لها، ليس فيها شيء يستحق الوجود، كان قول القائل: إن بعضها يوجد بعضا، في غاية الجهل. فإن ما لا يستحق في نفسه أن يكون موجودا، كيف يستحق أن يكون موجدا [ ص: 202 ] لغيره، وكيف يكون وجوده بوجود ما هو مساو له في أنه لا يستحق الوجود.

يبين هذا أنه إذا كان هذا لا يستحق الوجود، وهذا لا يستحق الوجود، لم يكن جعل هذا علة والآخر معلولا بأولى من العكس، فإن شرط الفاعل أن يكون موجودا، فإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون فاعلا، وكل منهما لا يستحق أن يكون موجودا، فلا يكون فاعلا.

التالي السابق


الخدمات العلمية