الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : قوله تعالى : { قياما للناس }

                                                                                                                                                                                                              قيام الشيء قوامه وملاكه أي يقومون به قياما ، كما قال : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } ; أي يقومون بها .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : في معناه الحقيقي : فيه ثلاثة أقوال : [ ص: 208 ]

                                                                                                                                                                                                              [ الأول ] : قال سعيد بن جبير : قياما للناس ، أي صلاحا .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : قياما للناس أي أمنا .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : يعني في المناسك والمتعبدات ; قاله الزجاج وغيره .

                                                                                                                                                                                                              والقول الأول يدخل فيه الثاني ; لأن الأمن من الصلاح ، ويدخل التمكن من المناسك والعبادات ; فإن لكل مصلحة .

                                                                                                                                                                                                              وفائدة ذلك وحكمته أن الله سبحانه خلق الخلق في الجبلة أخيافا يتقاطعون تدابرا واختلافا ، ويتنافسون في لف الحطام إسرافا ، لا يبتغون فيه إنصافا ، ولا يأتمرون فيه برشد اعترافا ، فأمرهم الله سبحانه بالخلافة ، وجعل فيهم المملكة ، وصرف أمورهم إلى تدبير واحد يزعهم عن التنازع ، ويحملهم على التألف من التقاطع ، ويردع الظالم عن المظلوم ، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه حقا ، ويسوسهم في أحوالهم لطفا ورفقا ، وأوقع في قلوبهم صدق ذلك وصوابه ، وأراهم بالمعاينة والتجربة صلاح ذلك في ابتداء الأمر ومآله ، ولقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فالرياسة للسياسة والملك لنفي الملك ، وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة ، فأنشأ الله الخليقة لهذه الفائدة والمصلحة على الملوك والخلفاء ، كلما بان خليفة خلفه آخر ، وكلما هلك ملك ملك بعده غيره ; ليستتب به التدبير ، وتجري على مقتضى رأيه الأمور ، ويكف الله سبحانه به عادية الجمهور ; فإذا بعث نبيا سخر الله سبحانه له الملك في وقته إن كان ضعيفا ، فكان صغوه إليه وعونه معه ، كما فعل بدانيال وأمثاله .

                                                                                                                                                                                                              وإن بعثه قويا يسر له الاستيلاء على الزمان وأهله ، وأعرى أرض السلطان عن ظله ، وجعل الأمر في الدين وأهله ، كما فعل بموسى ، ولما أراده الله من التيسير على نبيه محمد ، والتقديم له ، والتشريف لقومه أسكن أباه إسماعيل البلدة الحرام حيث لا إنس ولا أنيس ، واستخرج فيها ذريته ، وساق إليه من الجوار من عمرت به تلك البلاد والديار ، وجردهم عن الملك تقدمة لرئاسة الملة ، وكانوا على جبلة الخليقة [ ص: 209 ] وسليقة الآدمية ، من التحاسد والتنافس ، والتقاطع والتدابر ، والسلب والغارة ، والقتل والثارة ، ولم يكن بد في الحكمة الإلهية والمشيئة الأولية من كاف يدوم مع الحال ، ورادع يحمد معه المآل ; فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام لحقه ، وأوقع في نفوسهم هيبته لحكمته ، وعظم بينهم حرمته لقهره ; فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه ، ولذلك قال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } . بيد أنه لما كان موضعا مخصوما لا يدركه كل مظلوم ولا يناله كل خائف جعل الشهر الحرام وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : ملجأ آخر ، فقرر في قلوبهم ، وأوقع في نفوسهم حرمة الأشهر الحرم ; فكانوا لا يروعون فيها سربا ، ولا يطلبون فيها ذنبا ، ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه .

                                                                                                                                                                                                              واقتطعوا فيها ثلث الزمان ، ووصلوا منها ثلاثة متوالية ، فسحة وراحة ، ومجالا للسياحة في الأمن واستراحة ، وجعلوا منها واحدا مفردا في نصف العام دركا للاحترام ; ثم يسر لهم الإلهام ، وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما ، وعلقوا عليه نعلا . روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : أن القلائد حبل يفتله ، ونعلان يقلدهما ، والنعل الواحد تجزي ; ولذلك روى ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يقلد نعلين . وربما قلد نعلا واحدا ، فإذا فعل الرجل ذلك في بعيره أو في نفسه لم يرعه ذلك حيث لقيه ، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه ، حتى جاء الله بالإسلام ، وبين الحق بمحمد عليه السلام فانتظم الدين في سلكه ، وعاد الحق إلى نصابه ، وبهذا وجبت الخلافة هدى ، ومنع الله الخلق بعد ذلك أن يترك [ ص: 210 ] سدى ، فأسندت الإمامة إليه ، وانبنى وجوبها على الخلق عليه ، وهو قوله سبحانه وتعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا }

                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة : قوله تعالى : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } إلى آخر الآية : المعنى أنه دبر ذلك من حكمه ، وأنفذه من قضائه بقدرته على مقتضى علمه ، ليعلموا بظهور هذا التقدير وانتظامه في التدبير عموم علمه ، وشمول قدرته ، وإحاطته بذلك كله ، كيفما تصرف أو تقدر .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية