الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن الاستنباط هو الاستخراج ، ومنه استنباط المياه والعيون ؛ فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب ؛ والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام .

وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ؛ وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه ، فثبت بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني : منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه .

ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص . ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث .

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها ؛ لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر ، ثم قال : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول ؛ وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال .

فإن قيل : ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث ، إنما هو في الأمن والخوف من العدو ، لقوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها ، فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول ، وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف ، وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار ؛ فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث .

قيل له : قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ليس بمقصور على أمر العدو ؛ لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ، ذلك كله من الأمن والخوف ؛ فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من [ ص: 184 ] الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو ، بل جائز أن يكون عاما في الجميع ، وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك ، وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص .

وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو ؛ لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا ؛ لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى ، وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار ، فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة ، إذا كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ، ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك ، وهذا خلف من القول .

فإن قيل : ليس الاستنباط مقصورا على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا . قيل له : الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقع بين أهل اللغة فيه تنازع ؛ إذ كان أمرا معقولا في اللفظ ، فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب ، وذلك عندنا نحو قوله تعالى : فلا تقل لهما أف أنه دلالة على النهي عن الضرب والشتم والقتل ونحوه ، وهذا لا يقع في مثله خلاف ؛ فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج فيه إلى استنباط .

وإن أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه ، فإن هذا ليس بدليل ، وقد بيناه في أصول الفقه ؛ ولو كان هذا ضربا من الدليل لما أغفلته الصحابة ولاستدلت به على أحكام الحوادث ، ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر ، فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك .

وأيضا لو كان هذا ضربا من الاستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس ؛ إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة ، وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل ، فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد ؛ [ ص: 185 ] إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة .

فإن قيل : لما قال تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله ؛ إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله ، علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد . قيل له : قوله : " إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله " خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله ، وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه ، فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده .

وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة ؛ لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الاستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر ، بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص .

التالي السابق


الخدمات العلمية