الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو بكر : قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم يقتضي إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال : قام فينا خطيبا فقال : أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين : لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره حتى يستبرئها بحيضة . قال أبو داود : ذكر الاستبراء هاهنا وهم من أبي معاوية ، وهو صحيح في حديث أبي سعيد . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا مسكين قال : حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ، فرأى امرأة مجحا فقال : لعل صاحبها ألم بها ؟ قالوا : نعم ، قال : لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره ، كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه وهو لا يحل له . فهذه الأخبار [ ص: 85 ] تمنع من استحدث ملكا في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت حائلا ، وحتى تضع حملها إن كانت حاملا ؛ وليس بين فقهاء الأمصار خلاف في وجوب استبراء المسبية على ما ذكرنا ؛ إلا أن الحسن بن صالح قال : " عليها العدة حيضتين إذا كان لها زوج في دار الحرب " وقد ثبت بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة ، وليس هذا الاستبراء بعدة ؛ لأنها لو كانت عدة لفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذوات الأزواج منهن وبين من ليس لها زوج منهن ؛ لأن العدة لا تجب إلا عن فراش ، فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دل ذلك على أن هذه الحيضة ليست بعدة .

فإن قيل : قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرت : " إذا انقضت عدتهن " فجعل ذلك عدة . قيل له : يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلا منه للاستبراء أنه عدة ، وجائز أن تكون العدة لما كان أصلها استبراء الرحم أجري اسم العدة على الاستبراء على وجه المجاز .

قال أبو بكر : وقد روي في قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم تأويل آخر : روى زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : " ذوات الأزواج " ورجع ذلك إلى قوله : حرم الله الزنا .

وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال : " فزوجتك مما ملكت يمينك " يقول : حرم الله تعالى الزنا ، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك .

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال : " نهي عن الزنا " . وعن عطاء بن السائب قال : " كل محصنة عليك حرام إلا امرأة تملكها بنكاح " . قال أبو بكر : وكأن تأويلها عند هؤلاء أن ذوات الأزواج حرام إلا على أزواجهن ؛ وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له ، وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي تأولها الصحابة عليها من إباحة وطء السبايا اللاتي لهن أزواج حربيون فيكون محمولا على الأمرين ، والأظهر أن ملك اليمين هي الأمة دون الزوجات ؛ لأن الله قد فرق بينهما ، فقال الله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فجعل ملك اليمين غير الزوجات ؛ والإطلاق إنما يتناول الإماء المملوكات دون الزوجات ، وهي كذلك في الحقيقة ؛ لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئا وإنما له منها استباحة الوطء ومنافع بضعها في ملكها دونه ، ألا تري أنها لو وطئت بشبهة وهي تحت زوج كان المهر لها دونه ؟ فدل ذلك [ ص: 86 ] على أنه لا يملك من زوجته شيئا ، فوجب أن يحمل قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم على من يملكها في الحقيقة وهي المسبية .

التالي السابق


الخدمات العلمية