الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 167 ] وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يسمى مكانا ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدل إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبة ونصرة، كما يقال: فلان معي وفلان علي، إذ كان من شأن المتحابين قرب كل منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن المجتمعين من الآدميين في محل [أن] يعرف أحدهما الآخر ومعاونته له.

وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في قوله: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ، وكما في قوله: نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ، وقوله تعالى: قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا إلى قوله: ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم .

وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقوله: الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ، وقوله: [ ص: 168 ]

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون . فهذا ونحوه وإن ذكر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل: إن ربي لسميع الدعاء ، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما يعنى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم . فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دل عليه السياق.

ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من العلم الذي يتضمن الإحصاء والجزاء على الأعمال عموما، ومن الموالاة والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائه على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدل هذا السياق على [ ص: 169 ] أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب عنه شيء من أمرهم.

وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العباس بن عبد المطلب لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" .

وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" .

وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة من قوله: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم.

ومثل هذا قوله: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول .

وأما قوله: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وقوله لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى ، وقوله [ ص: 170 ] عن الرسول: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فقد علم أن حكم المعية هنا ومقصودها ليس عاما لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصا بالمتقين المحسنين دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون وقومه، وبالنبي وصديقه دون مشركي قومه. فهذه الأمور التي فيها خصوص وعموم تضمنها لفظ المعية ودل عليها، كما دل لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنا ولا تياسرا.

بل إذا قيل: إنها تتضمن قربه من خلقه، فقربه ثابت بنصوص صريحة أصرح من لفظ المعية، كقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، وقوله تعالى: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: "أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه قريب في علوه علي في دنوه.

وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقرب عباده منه بكلام مبسوط، [ ص: 171 ] وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع ، وبينا أن قربه لا ينافي علوه.

الجواب الثالث

أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مثبتة الصفات ونفاتها المراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليل يوجب ذلك.

وقد يراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما.

وقد يراد بلفظ التأويل ما يؤول إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في الخارج التي دل الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ، وقوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، وأمثال ذلك.

إذا عرف ذلك فنقول : أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاع فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، أو عن حقيقته أو عن [ ص: 172 ] الاحتمال الراجح، وحينئذ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفات الخالق مماثلة لصفات المخلوقات -مثل أن يظن أن استواءه على العرش كاستواء الإنسان على بعيره أو على الفلك، أو أن معيته مع الخلق تقتضي دخوله فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" ظاهره أن صفة الله حلت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، وأن قوله: أأمنتم من في السماء يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ونحو ذلك- فمن ظن أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقد التأويل في ذلك كله، ويعلم أن هذه النصوص مصروفة عن هذا المعنى الذي ظنه هو الاحتمال الراجح إلى ما يخالف ذلك المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهر هذه النصوص، ولا أنها تدل على ذلك.

بل من فهم منها هذا المعنى الفاسد بينوا له أنها لا تدل على هذا المعنى الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد.

فمن ادعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دل عليها القرآن كان ما في القرآن من التصريح بنفي ذلك مثبتا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعلوه في غير موضع من الكتاب. وهذه كلها نصوص تنفي أن تكون صفاته تشبه صفات خلقه ، أو يكون حالا [ ص: 173 ] في المخلوقات. وأخبر بقوله: ليس كمثله شيء وبقوله: ولم يكن له كفوا أحد ونحو ذلك أن يماثله العباد في صفاتهم، فتكون صفاته كصفات خلقه.

فهذه النصوص المفسرة تبين أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادة، سواء سمى المسمي ذلك تأويلا أو لم يسمه.

التالي السابق


الخدمات العلمية