الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3091 [ 1717 ] وعنه قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده". فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا". قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

                                                                                              رواه البخاري (4432)، ومسلم (1637) (22).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله: " يوم الخميس ! وما يوم الخميس؟ ! " تعظيم وتفخيم لذلك اليوم على جهة التفجع على ما فاتهم في ذلك من كتب كتاب لا يكون معه ضلال، وهو حقيق بأكثر من ذلك التفجع، وهذا نحو قوله تعالى: الحاقة ما الحاقة [الحاقة: 1 - 2] و: القارعة ما القارعة [القارعة: 1 - 2] وهذا المعنى الذي هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته يحتمل أن يكون تفصيل أمور مهمة وقعت في الشريعة جملية فأراد تعيينها، ويحتمل أن يريد به بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن، ومن أولى بالاتباع والمبايعة. ويحتمل أن يريد به بيان أمر الخلافة وتعيين الخليفة بعده - وهذا أقربها، والله تعالى أعلم.

                                                                                              وقوله: " ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده "، لا شك في أن " ائتوني " أمر وطلب توجه لكل من حضر، فكان حق كل من حضر المبادرة للامتثال، لا سيما وقد قرنه بقوله: "لا تضلون بعده"، لكن ظهر لعمر ولطائفة معه أن هذا الأمر [ ص: 559 ] ليس على الوجوب وأنه من باب الإرشاد (إلى الأصلح)، مع أن ما في كتاب الله يرشد إلى كل شيء، كما قال تعالى: تبيانا لكل شيء [النحل: 89] ومع ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، فكره أن يتكلف من ذلك ما يشق ويثقل عليه، فظهر لهم أن الأولى ألا يكتب، وأرادت الطائفة الأخرى أن يكتب متمسكة بظاهر الأمر واغتناما لزيادة الإيضاح ورفع الإشكال، فيا ليت ذلك لو وقع وحصل ! ولكن قدر الله وما شاء فعل.

                                                                                              ومع ذلك فلا عتب ولا لوم على الطائفة الأولى؛ إذ لم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذمهم، بل قال للجميع: " دعوني، فالذي أنا فيه خير "، وهذا نحو مما جرى لهم حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة "، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت ! قال: فما عنف واحدا من الفريقين. وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب أو أحدهما مصيب والآخر غير مأثوم بل مأجور - كما قررناه في الأصول.

                                                                                              وقوله: " وما ينبغي عند نبي تنازع "؛ أي: اختلاف، هذا إشعار بأن الأولى المبادرة إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يتوقف في شيء منه إذا فهم مقصوده ولم يشكل منه شيء، كيف لا وهو المبلغ عن الله أحكامه ومصالح الدنيا والدين !

                                                                                              وقوله: " أهجر؟ استفهموه "، كذا الرواية الصحيحة في هذا الحرف: " أهجر؟ " بهمزة الاستفهام، و " هجر " بالفتح بغير تنوين على أنه فعل ماض، وقد رواه بعضهم: " أهجرا " بفتح الهمزة وبضم الهاء وتنوين الراء على أن يجعله مفعولا [ ص: 560 ] بفعل مضمر؛ أي: أقال: هجرا؟ وقد روي في غير الأم " هجر " بلا استفهام، والهجر يراد به هذيان المريض، وهو الكلام الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته، ووقوع مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في حال مرضه أو صحته محال؛ لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه عما يخل بالتبليغ، ألا تسمع قوله تعالى: وما ينطق عن الهوى [النجم: 3] إن هو إلا وحي يوحى [النجم: 4] وقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9]؟ وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحق المبين، إلى غير ذلك. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقا"، ولما علم أصحابه هذا كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته حتى في هذه الحالة، فإنهم تلقوا عنه وقبلوا منه جميع ما وصى به عند موته، وعملوا على قوله: " لا نورث " ولقوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب "، و: "أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، إلى غير ذلك. ولم يتوقفوا ولا شكوا في شيء منه، وعلى هذا يستحيل أن يكون قولهم: " أهجر " لشك عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة وتلكأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف؟ أتظن أنه قال هذيانا؟ ! فدع التوقف وقرب الكتف فإنه إنما يقول الحق لا الهجر ! وهذا أحسن ما يحمل ذلك عليه، فلو قدرنا أن أحدا منهم قال ذلك عن شك عرض له في صحة قوله كان خطأ منه، وبعيد أن يقره على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة وكبرائهم وفضلائهم، هذا تقدير بعيد ورأي غير سديد، ويحتمل أن يكون هذا صدر عن قائله عن دهش وحيرة أصابته في ذلك المقام العظيم والمصاب الجسيم كما قد أصاب عمر وغيره عند موته.

                                                                                              [ ص: 561 ] وقوله: " أوصيكم بثلاث " نص في أنه أوصى عند موته، وهو مخصص لقول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يوص بشيء - وقد تقدم ذلك.

                                                                                              وقوله: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب "، يعني بالمشركين اليهود ؛ لأنه ما كان بقي مشرك في أرض العرب في ذلك الوقت غيرهم فتعينوا، وقد جاء في بعض طرقه " أخرجوا اليهود من جزيرة العرب " مفسرا.

                                                                                              والجزيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي مأخوذة من الجزر وهو القطع، ومنه الجزار والجزارة من الغنم، والجزور من الإبل - كل ذلك راجع إلى القطع.

                                                                                              وسميت أرض العرب بالجزيرة لانقطاعها بإحاطة البحار بها والحرار، وأضيفت إلى العرب لاختصاصهم بها ولكونهم فيها ومنها.

                                                                                              واختلف في حدها؛ فقال الأصمعي : هي ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وفي العرض من جدة وما والاها إلى أطراف الشام . وقال أبو عبيد : هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن ، وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة . وقال المخزومي عن مالك : هي مكة والمدينة واليمامة واليمن . وحكى الهروي عنه: المدينة - والأول المعروف عنه، فقال مالك : يخرج من هذه المواضع التي ذكر المخزومي كل من كان على غير دين الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين - وكذلك قال الشافعي ، غير أنه استثنى من ذلك اليمن ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر حين أجلاهم. وقال الشافعي : ولا يدفنون فيها موتاهم، ويلجؤون إلى الدفن بغيرها. وقد رأى الطبري أن هذا الحكم ليس خاصا بجزيرة العرب ؛ فقال: الواجب على كل إمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه المسلمون إذا لم يكن من بلادهم التي صولحوا عليها، إلا أن تدعو ضرورة لبقائهم بها لعمارتها، فإذا كان ذلك فلا يدعهم في مصر مع المسلمين أكثر من [ ص: 562 ] ثلاث وليسكنهم خارجا عنهم، ويمنعهم اتخاذ المساكن في أمصار المسلمين، فإن اتخذوها باعها عليهم، واستدل على ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " لا تبقى قبلتان بأرض العرب "، وبقول ابن عباس : لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم. وبإخراج علي رضي الله عنه أهل الذمة من الكوفة إلى الحيرة . قال: وإنما خص في الحديث جزيرة العرب لأنه لم يكن للإسلام يومئذ ظهور إلا بها.

                                                                                              قلت: وتخصيص الحكم بجزيرة العرب هو قول المتقدمين والسلف الماضين، فلا يعدل عنه.

                                                                                              ولم يعرج أبو حنيفة على هذا الحديث، فأجاز استيطان المشركين بالجزيرة ومخالفة مثل هذا جريرة.

                                                                                              وقوله: " وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم "، الوفد جمع وافد، كصحب وصاحب، وركب وراكب. وجمع الوفد: أوفاد، ووفود. والوفادة الاسم وهو القادم على القوم والرسول إليهم، يقال: أوفدته أرسلته. والإجازة: العطية. وهذا منه صلى الله عليه وسلم عهد ووصية لولاة المسلمين بإكرام الوفود والإحسان إليهم قضاء لحق قصدهم ورفقا بهم واستئلافا لهم.

                                                                                              قال القاضي أبو الفضل : وسواء في ذلك عند أهل العلم، كانوا مسلمين أو كفارا؛ لأن الكافر إنما يفد في مصالح المسلمين. قال: وهذه سنة لازمة للأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                              وقوله: " وسكت عن الثالثة - أو قال: أنسيتها "، يريد سعيد بن جبير ، قال [ ص: 563 ] المهلب : هي تجهيز جيش أسامة . قال غيره: ويحتمل أن تكون هي قوله: " لا تتخذوا قبري وثنا "، وقد ذكر مالك في الموطأ ما يدل على ذلك من حديث عمر ، فإنه قال فيه: أول ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ! لا يبقين دينان بجزيرة العرب ".

                                                                                              و " الكتف " هنا يراد به عظم الكتف، فإنهم يكتبون فيها. و " اللوح " من الخشب - وفيه دليل على جواز كتابة العلم والحديث، وهذا وأشباهه ناسخ [ ص: 564 ] لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، ومن كتب شيئا فليمحه". وقد قدمنا ذلك.




                                                                                              الخدمات العلمية