الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1139 219 - حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الملك، قال: سمعت قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث بأربع عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وآنقنني، قال: لا تسافر المرأة يومين إلا معها زوجها، أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: ( ومسجد الأقصى ).

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: ذكروا غير مرة، واسم أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ، وعبد الملك بن عمير وقزعة بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات، مضى في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، وزياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف هو زياد بن أبي سفيان ، وقيل: هو مولى عبد الملك بن مروان ، وقيل: بل هو من بني الحريش .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه السماع في موضعين، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن شيخه بصري، وشعبة واسطي، وعبد الملك كوفي، وقزعة بصري. وقد ذكرنا في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة من أخرجه غيره، وتعداد إخراج البخاري إياه وقد اقتصر البخاري هناك في هذا الحديث على قطعة منه وذكر هاهنا تمامه وأخرج هناك أيضا عن أبي هريرة آخر حديث أبي سعيد الذي ذكره هاهنا وهو قوله: (لا تشد الرحال. وقد تكلمنا فيه هناك مستقصى وبقي الكلام في بقية الحديث فنقول:

                                                                                                                                                                                  قوله: (يحدث بأربع) جملة وقعت حالا من أبي سعيد أي: يحدث بأربع كلمات كلها حكم. الأولى: قوله: (لا تسافر المرأة)، والثانية: قوله: (لا صوم)، والثالثة: قوله: (لا صلاة)، والرابعة: قوله: (لا تشد الرحال).

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأعجبنني) بلفظ صيغة الجمع للمؤنث، ويروى: فأعجبتني بصيغة الإفراد، والضمير الذي فيه يرجع إلى قوله: (بأربع).

                                                                                                                                                                                  قوله: (وآنقنني) كذلك بلفظ الجمع، والإفراد، وهو بمد الهمزة وفتح النون وسكون القاف، يقال: آنقه إذا أعجبه وشيء مونق، أي: معجب، وقال ابن الأثير : الآنق بالفتح الفرح والسرور، والشيء الأنيق المعجب، والمحدثون يروونه أيقنني، وليس بشيء، وقد جاء في صحيح مسلم : لا أينق بحديثه، أي لا أعجب، وهي كذا تروى، وضبطه الأصيلي : أتقنني بتاء مثناة من فوق من التوق، وليس كذلك إنما الصواب أن يقال: من التوق توقنني كما [ ص: 264 ] يقال: شوقنني من الشوق، وقال بعضهم: وأعجبني تأكيد لفظي لأعجبنني. (قلت): ليس كذلك; لأن التأكيد اللفظي أن يكرر عين اللفظ الواحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أو ذو محرم) . قال النووي : المحرم من النساء من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا على التأبيد احتراز من أخت المرأة، وبسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بالشبهة; لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة; لأنه ليس بفعل مكلف ولحرمتها احتراز من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا، قال أصحابنا: المحرم كل من لا يحل له نكاحها على التأبيد لقرابة أو رضاع أو صهرية والعبد والحر والمسلم والذمي سواء إلا المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها، والفاسق لأنه لا يحصل به المقصود ولا بد فيه من العقل والبلوغ لعجز الصبي والمجنون عن الحفظ.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) قد ذكرنا أن هذا الحديث مشتمل على أربعة أحكام: الأول في حكم المرأة التي تسافر ، وفيه خمسة مذاهب: الأول: مذهب الحسن البصري ، والزهري ، وقتادة ، فإنهم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تسافر ليلتين بلا زوج أو محرم، فإذا كان أقل من ذلك يجوز، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.

                                                                                                                                                                                  الثاني: مذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية ، فإنهم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تسافر مطلقا سواء كان السفر قريبا أو بعيدا، إلا إذا كان معها زوج أو ذو محرم لها، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: قال ابن عباس : خطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فقال: لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها ذو محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني قد اكتتبت في غزوة كذا وكذا وقد أردت أن أحج بامرأتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احجج مع امرأتك . ورواه البخاري ومسلم وابن ماجه بنحوه، قالوا بعموم الحديث واشتماله على حكم السفر مطلقا. وروى الطحاوي أيضا من حديث سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم . وأخرج البزار عنه نحوه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: مذهب عطاء وسعيد بن كيسان وقوم من الطائفة الظاهرية ، فإنهم قالوا بجواز سفر المرأة فيما دون البريد، فإذا كان بريدا فصاعدا فليس لها أن تسافر إلا بمحرم، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي ، ثم البيهقي من حديث سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر امرأة بريدا إلا مع زوج أو ذي محرم . وأخرجه أبو داود أيضا، والبريد فرسخان، وقيل: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.

                                                                                                                                                                                  الرابع: مذهب الأوزاعي والليث ومالك والشافعي ، فإنهم قالوا: للمرأة أن تسافر فيما دون اليوم بلا محرم، وفيما زاد على ذلك لا إلا بزوج أو محرم، لكن عند مالك والشافعي لها أن تسافر للحج الفرض بلا زوج ومحرم، وإن كان بينها وبين مكة سفر أو لم يكن فإنهما خصا النهي عن ذلك بالأسفار الغير الواجبة، واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم من حديث أبي سعيد أن أباه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم .

                                                                                                                                                                                  الخامس: مذهب الثوري والأعمش وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، فإنهم قالوا: ليس للمرأة أن تسافر مسافة ثلاثة أيام فصاعدا إلا مع زوج أو ذي محرم، فإذا كان أقل من ذلك فلها أن تسافر بغير محرم، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، قال: حدثني يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم . وأخرجه الطحاوي أيضا، ثم التوفيق بينه وبين هذه الروايات، وبيان العمل بحديث الثلاث هو أن هذه الأحاديث كلها متفقة على حرمة السفر عليها بغير محرم مسافة ثلاثة أيام فما فوقها، وفي تقييده بالثلاث إباحة لما دونها إذ لو لم يكن كذلك لما كان لتعيين الثلاث فائدة، ولكان نهى مطلقا، وكلام الحكيم يصان عن اللغو، وعما لا فائدة فيه، فإذا ثبت بذكر الثلاث وتعينه إباحة ما دونه يحتاج إلى التوفيق بينه وبين ما روي من اليوم واليومين والبريد فيقال: إن خبر الثلاث إن كان متأخرا فهو ناسخ، وإن كان متقدما فقد جاءت الإباحة بأقل منه، ثم جاء النهي بعده عن سفر ما دون الثلاث فحرم ما حرم الحديث الأول. وزاد عليه حرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث، فوجب استعمال الثلاث على ما أوجبه في الأحوال كلها، فحينئذ الأخذ به أولى من الذي يجب في حال دون حال، وقال القاضي عياض عن أبي سعيد في رواية [ ص: 265 ] ثلاث ليال، وفي رواية أخرى عنه: يومين، وفي الأخرى أكثر من ثلاث، وفي حديث ابن عمر : ثلاث، وفي حديث أبي هريرة : مسيرة ليلة، وفي الأخرى عنه: يوما وليلة، وفي الأخرى عنه: ثلاث. وهذا كله لا يتنافى ولا يختلف، فيكون صلى الله عليه وسلم منع من ثلاث، ومن يومين، ومن يوم، أو يوم وليلة، وهو أقلها، وقد يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة، ونوازل متفرقة، فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده، وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها. الحكم الثاني: في صوم يومي العيدين ، أما صوم يوم عيد الفطر فحرم لكونه عيدا للمسلمين، وأما صوم يوم عيد الأضحى فحرم; لأنه يوم القرابين، وهو يوم ضيافة الله تعالى، والصوم فيه إعراض، عن ضيافة الله تعالى، وقد روى الزهري ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في يوم نحر بدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينهى عن صوم هذين اليومين، أما يوم الفطر ففطركم من صومكم، وعيد للمسلمين، وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم . رواه الترمذي بهذا اللفظ، ورواه أيضا بقية الستة من طرق عن الزهري .

                                                                                                                                                                                  قوله: (أما يوم الفطر ففطركم) ، أي: فهو يوم فطركم، ووصفه بذلك لبيان العلة، وهو الفصل بين الصوم والفطر ليعلم انتهاء الصوم، ودخول الفطر. وقوله: (وعيد للمسلمين) علة ثانية، وكأنه كان من المعلوم أنه لا يصام يوم عيد، وقوله: (وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم) وأشار به إلى العلة أيضا; لأنه لو كان يوم صوم لم يؤكل من النسك ذلك اليوم، فلم يكن لنحرها فيه معنى، وقيل: العلة في الفطر يوم النحر أن فيه دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه، وإكرامه لأهل منى وغيرهم لما شرع لهم من ذبح النسك، والأكل منها، فمن صام هذا اليوم فكأنه رد على الله كرامته، وحكى صاحب المفهم عن الجمهور أن فطرهما شرع غير معلل، وفي أمر عمر رضي الله تعالى عنه بالأكل من لحم النسك إشارة إلى مشروعية الأكل من الأضحية، وهو متفق على استحبابه، واختلف في وجوبه.

                                                                                                                                                                                  وتحريم صوم هذين اليومين أمر مجمع عليه بين أهل العلم، وكل منهما غير قابل للصوم عندهم، إلا أن الرافعي حكى عن أبي حنيفة أنه لو نذر صومهما لكان له أن يصوم فيهما ؟ (قلت): ليس كذلك مذهب أبي حنيفة ، وإنما مذهبه أنه لو نذر صوم يوم النحر أفطر، وقضى يوما مكانه، أما الفطر فلأن الصوم فيه معصية، وأما القضاء فلأنه نذر بصوم مشروع بأصله، والنهي لا ينافي المشروعية كما تقرر في الأصول، وسيأتي البحث فيه مستقصى في كتاب الصوم.

                                                                                                                                                                                  الحكم الثالث: في الصلاة بعد الصبح، وقد مر في كتاب الصلاة.

                                                                                                                                                                                  الحكم الرابع: في شد الرحال ، وقد مر في الباب السابق مستقصى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية