الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الطريق الخامس: أن يقال: إذا كان مباينا للعالم: فإما أن يقدر محيطا به، أو لا يقدر محيطا به، سواء قدر أنه محيط به دائما، أو محيط به في بعض الأوقات، كما يقبض يوم القيامة ويطوي السماوات، فإن قدر محيطا به كان عاليا علو المحيط على المحاط به.

وقد تقدم قولهم: (إن الفلك كري) فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض، فهي فوقها باتفاق العلماء، فما كان محيطا بالجميع أولى بالعلو والارتفاع، سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلا لشيء من المخلوقات ولا مجانسا لأفلاك ولا غيرها.

وإن لم يقدر محيطا به، فإن كان العالم كريا، وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو، فإذا كان مباينا له لزم أن يكون عاليا، كيفما كان الأمر.

وإن قدر أن العالم ليس بكري، أو هو كري ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو، مثل أن تقول: إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام، فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى. فحينئذ إذا كان مباينا، وقدر أنه غير محيط، فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها.

ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص، لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة، ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض، وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل، فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما، إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع. [ ص: 9 ]

وأما قول النافي: (ولأن العالم كرة، فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة) .

فيقال له: هذا خطأ، لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز، وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب، إذا كانت في السماء، فلا تكون إلا فوق الأرض، وكذلك السحاب والطير في الهواء.

وأيضا فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له، وليس فيه نقص، كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد، والخيال الباطل، وكذلك النملة الماشية تحت السقف. فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها، لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد.

وأيضا فإنه مع كونه كريا لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص، ألا ترى أن الأرض مع قولهم، إنها كرية، فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، أشرف من الجهة التي غمرها الماء؟ وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض، لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى، فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى.

ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك، أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية، كما غمرها [ ص: 10 ] من تلك الناحية، لأن الماء بالطبع يعلو على التراب، ومع هذا اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه.

وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه .

وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه، حتى قالوا: هذا سببه عناية الرب، مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقص مذاهبهم.

وإذا كان هذا فيما شوهد، فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية