الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحا، وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية. فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة. [ ص: 481 ]

وأيضا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى.

وأيضا فإن قوله: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [سورة الذاريات:56-57]، دليل على أنه خلقهم ليعبدوه، لا ليرزقوا ويطعموا، بل هو المطعم الرازق، وإطعامه لهم ورزقه إياهم، هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم، الذي قد جعله أهل هذا القول عبادة له، فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين، وهذا باطل.

وأيضا: فقوله ليعبدون يقتضي فعلا يفعلونه هم. وكونه يربيهم ويخلقهم، ليس فيه إلا فعله فقط، ليس في ذلك فعل لهم.

ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول: إنهم كلهم عبدوه، أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة، كما أن قول القدرية الذين يقولون: إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط، وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته – قول ضعيف.

والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه، وفي تفسير القرآن بغير المراد، وهو مما « نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر: هذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض» . [ ص: 482 ]

والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم.

وهذا هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون [سورة الأعراف:172-173] .

فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم، كما نقل ذلك عن طائفة من السلف، ورواه بعضهم مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكره الحاكم، لكن رفعه ضعيف. [ ص: 483 ]

وإنما المرفوع الذي في السنن، كأبي داود، والترمذي، وموطأ مالك، من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم، ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا. [ ص: 484 ]

ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم. وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار. ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم.

فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم [سورة الأعراف:172]، فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده، وإن كان كثيرا، كما قال في تمام الآية: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم [سورة الأعراف:173].

وقال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض [سورة آل عمران:33-34]، وقال: ذرية من حملنا مع نوح [سورة الإسراء:3]، وقال: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون [سورة الأنعام:84]، إلى قوله: وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس [سورة الأنعام:85]، فاسم الذرية يتناول الكبار. [ ص: 485 ]

وقوله: وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى [سورة الأعراف:172] ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره. فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه.

قال تعالى: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين [سورة النساء:135]، وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار.

وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي أقر أربع مرات.

ومنه قوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [سورة التوبة:17]، فإنهم كانوا مقرين بما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم .

وقال تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين [سورة الأنعام:130] فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو إذا الشهادة على أنفسهم. [ ص: 486 ]

ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة، ويراد به أداؤها، فالأول كقوله: فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [سورة الطلاق:2]، والثاني كقوله: كونوا قوامين لله شهداء بالقسط [سورة المائدة:8] .

وقوله: وأشهدهم على أنفسهم [سورة الأعراف:172]، من هذا الثاني، ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره.

كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوارح على أصحابها، ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض.

لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن، إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه، وهو إقراره على نفسه، فالشهادة هنا خبر.

وقولهم: بلى شهدنا ، هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، ولهذا قال في الآية: وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى [سورة الأعراف:172]، فقولهم: بلى، معناه: أنت ربنا. وهذا إقرار بربوبيته لهم، وهذا الإقرار هو [ ص: 487 ] شهادة على أنفسهم، أي: إنطاقهم بالإقرار بربوبيته، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته.

وقوله: (أشهدهم) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات. لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم [سورة الأعراف:173]، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم، لا لدين الأمهات، كما قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة . [سورة الزخرف:22] ولهذا قال: قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [سورة الزخرف:24]، فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، إذ كان سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى.

فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنه قال: وأشهدهم أي: جعلهم شاهدين. وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة، كقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم [سورة الطلاق:2]، أي: احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم. [ ص: 488 ]

وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به، فيكون هذا إقرارا مشهودا به غير الشهادة، سواء كان شهادة بعضهم على بعض، كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به، بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم.

فالشهادة هي الإقرار، كما قال: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم [سورة النساء:135]، وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعا. فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم، أي: مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [سورة الأعراف:172]، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون له، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده.

كما يقول المملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقرا بربوبيته، شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه. ولهذا جميع بني آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم. وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه، وجعل علما ضروريا لهم، لا يمكن أحد جحده. [ ص: 489 ]

ثم قال بعد ذلك: أن تقولوا أي: كراهة أن تقولوا، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم، التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية، لكن كثير من الناس غافل عنها.

التالي السابق


الخدمات العلمية