الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجواب التاسع: أن يقال: نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة. وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلا وسمعا، فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها، كما تفعلونه في مسألة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك، إذ أنتم كثيرا ما تثبتون الشيء بدون لوازمه، أو مع وجود منافيه.

ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة، ونحوهم من النفاة، وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر، يظهر قصوره لمن كان خبيرا بالعقليات.

وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم، حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها، فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل، وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم، وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم. [ ص: 138 ]

ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه، بما به ناظرهم أولئك، ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين، كما تسلط عليهم أولئك، فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم، فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين، كما قاتلهم أولئك الكفار، حتى ظهر الباطل والكفر والضلال، بتفريطهم أولا في جهاد من يليهم من الكفار، وعداوتهم ثانيا على من يليهم من المسلمين.

وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال: أشداء على الكفار رحماء بينهم [سورة الفتح: 29] ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [سورة المائدة: 54] ، فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين.

كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج حيث قال: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.

وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج، فإن الخوارج كانوا [ ص: 139 ] يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار، وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار، فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم، معادين للمؤمنين أعزاء عليهم، كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية.

ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبرا، وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [سورة النساء: 51-52] .

ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان، وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم، بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم، ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم، وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم، كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه، فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته، كما أن هؤلاء يلحقهم أيضا الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه من حرماته.

وقد قال تعالى: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [سورة الزخرف: 39] .

والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات: نحن لا نرضى أن نجيبكم بما تجيبون به أنتم نفاة الصفات [ ص: 140 ] وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم، فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول، كما علم فسادها بصحيح المنقول، وتبين أيضا أن حجة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على من بلغه ما جاء به، ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه، بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [سورة النساء: 65] .

ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة، كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام، ونمنعهم المقدمات التي جعلوها أصل علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام. [ ص: 141 ]

الوجه الرابع والأربعون

أن يقال: العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فامتنع أن تكون أصلا له، بل هي أيضا باطلة.

وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر، من أهل الكلام والفلسفة، فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة:

طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون.

وطريقة التركيب والاستدلال بها أن الموصوف بها ممكن أو محدث. فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب.

والثالثة: الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه. قد يقال: إنها طريقة أخرى، وقد تدخل في الأولى.

التالي السابق


الخدمات العلمية