الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل، أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعيى بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأحرى؟

ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية، فظن أن قوله: ولم يعي بخلقهن [سورة الأحقاف: 33]، وهو من الإعياء: الذي هو النصب واللغوب، وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول، فكيف نتعب في الثاني؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية، كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن، ولا يفرقون بين عيي وأعيا، فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع.

وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول، ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من [ ص: 382 ] جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبينوا أنه الجامع لكل خير.

وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص، فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم. ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض، وقد علم ما فيه من الاعتراض، وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب.

وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب، فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب. والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث، فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن، وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم، مع تناقضهم في ذلك.

وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل. وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه، ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح، كما قد بسط في موضعه. ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات، ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات. ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات، فكثير [ ص: 383 ] من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود، وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول: إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات.

ومآل القولين واحد، وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين، فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود، فمن جعله هو الوجود الواجب، أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك، كان منكرا للصانع. ثم إذا كان هذا الوجود الواجب، كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه، كما بينا ذلك في غير هذا الموضع.

فمن جعله وجود كل موجود، كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب، ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره، ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل، ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها، ويوقعهم في شر مما منه فروا.

والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال: أفعيينا بالخلق الأول [سورة ق: 15]، لم يرد الإعياء الذي هو التعب، وإنما أراد العي، كما تقول العرب: عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه. وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه. ومن كان خالقا لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى. [ ص: 384 ]

والملاحدة المنكرون للمعاد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته. ونفي العي يثبت هذه الصفات، فتنتفي أصول شبههم. فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم، وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات، لا يختلف فعلها، فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك.

وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع. ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقا للمحدثات.

وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات، وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة، دل على الخالق العليم القدير الحكيم، علم فساد قول هؤلاء، فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث، لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها، فلا يكون مفعولا لها، ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها، لأن القول في تلك [ ص: 385 ] العلة كالقول في هذه، ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له، لأن الممكن لا يكون موجودا بنفسه، بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه، لأن كون ذلك الممكن محدثا لها أمر ممكن محدث، فلا بد له من محدث، فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة، فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له، وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه، لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل.

ووجه الحصر أن يقال: محدث الحوادث: إما أن يكون هو الواجب بنفسه، بوسط أو بغير وسط، أو غير الواجب بنفسه. وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن. والممكن إما أن يكون له موجد، وإما أن لا يكون. والثاني ممتنع. والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن، فلا بد له من موجد.

فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث، يكون واجبا بنفسه، ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها، وهذا يبطل أصل قولهم.

وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون: إنه صدر عن موجب بالذات. 0 ويحكى هذا القول عن برقلس. وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئا ولا يفعل شيئا، بل [ ص: 386 ] الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك.

وإنما المقصود هنا التنبيه على [أن] قوله تعالى: ولم يعي بخلقهن [سورة الأحقاف: 33]، فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال، وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى، وبسط ذلك يطول.

ومما يبين خذلان الله لأهل البدع، والمخالفين للكتاب والسنة، أن هذين الأصلين: أمر الولادة، وأمر المعاد، هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم، الذين يقولون: إن العقول تولدت عن الله، وينكرون إحياء الله الموتى.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك. فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته. وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة، وابن عباس. [ ص: 387 ] وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه، وكذبوه بقولهم: لن يعيدنا كما بدأنا، وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب.

قال تعالى: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا إلى قوله: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا إلى قوله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [سورة مريم: 66 - 95].

فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد، وعلى من قال: إنه اتخذ ولدا، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الحديث. [ ص: 388 ]

وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله.

ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى، لا على البرهان الذي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله.

قال تعالى: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى [سورة النحل: 60]، بعد قوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [سورة النحل: 58].

وقال تعالى في الآية الأخرى: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن [سورة الزخرف: 17]، أي بما ضربوه للرحمن مثلا، والمثل الذي ضربوه له هو البنات، وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب.

فقال تعالى: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء [سورة النحل: 60]، ومن قال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة، فله مثل السوء.

والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذ لا كفو له ولا ند، فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص، ولا يكتفى في حقه بالمثل العالي، بل له المثل الأعلى، إذ هو الأعلى سبحانه، والعلم به أعلى العلوم، وذكره أعلى الأذكار، وحبه أعلى الحب. [ ص: 389 ]

والذي يبتغي وجه ربه الأعلى [هو أعلى] إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله، كما قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [سورة الحجرات: 13]، وقال تعالى: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [سورة الليل: 17 - 20].

ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم [سورة الروم: 28]، يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك، كما يخاف السادة بعضهم بعضا، فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي، وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني؟.

ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضا ملك ناقص، فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه، لا يملك عينه، وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته، وملك المستأجر بعض منافع أجيره. ولهذا [ ص: 390 ] يشبه النكاح بملك اليمين، كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.

وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: وألفيا سيدها لدا الباب [سورة يوسف: 25]، فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكا للمالك، فكيف بالملك الحق التام لكل شيء؟ ملك المالك للأعيان والصفات، والمنافع والأفعال، الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه، ولا لغيره ملك مفرد، ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه، كيف يسوغ في مثل هذا، أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه؟.

التالي السابق


الخدمات العلمية