الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ (الجسم) ولفظ (المثل) .

فيقال: الجسم في لغة العرب هو البدن، وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه، فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسما في لغة العرب، وهو في اصطلاحكم جسم.

وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم، وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة، ولا الخبز مثل التراب، ولا الدم كالذهب، فما يسمى في لغة العرب (جسدا) و (جسما) ونحو ذلك، هو مما يعلم أنه ليس متماثلا بصريح العقل والحس، فكيف بما هو أعم من ذلك، مثل كونه يشار إليه، أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة، فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة، كالعدسة والسمسمة، بل الذرة التي قال الله فيها: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [سورة النساء: 40] ، هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة.

ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان: هذا طويل، وهذا قصير. وكذلك أعضاء الإنسان كيده [ ص: 113 ] ورجله وعنقه، يقولون: هذا طويل وهذا قصير، ويقولون: هذا عريض، وهذا دقيق ورقيق، لعنقه ويده.

وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها، لا يقولون لفم الإنسان: إنه عميق، ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك، فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة.

فإذا قالوا عن الشيء: إنه طويل عريض عميق، لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة، وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق، بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق، ثم يقولون مع هذا: إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة، فإنه يجب أن يكون مماثلا مستويا في الحد والحقيقة، لا يختلف إلا باختلاف أعراضه.

فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم. ثم بتقدير أن يكون كذلك، فلا يتمارى عاقلان أن لفظ (المثل) في لغة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا، وأنه إذا قيل له: إن كذا مثل كذا، أو ليس مثله، وهذا ليس له مثل، فإنه ليس المفهوم من (المثل) كون هذا بحيث يشار إليه، وكون هذا بحيث يشار إليه، أو كون كل منهما له قدر، أو له طول وعرض وعمق، لا بالمعنى اللغوي، ولا بما هو أقرب إليه، فضلا عن اصطلاحهم.

ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يقولون: الجبل مثل النار، ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر، ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة، مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على [ ص: 114 ] مطلق المقدار، بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسما، بل حيوانا، بل إنسانا.

كما في قوله: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [سورة محمد: 38] .

وقال تعالى: أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون [سورة الواقعة: 58-61] .

وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم:


ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل



وقال الآخر:


ما إن كمثلهم في الناس واحد



فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله: ليس كمثله شيء ، أو قوله: ولم يكن له كفوا أحد على أنه لا صفة له، أو لا يرى في الآخرة، أو ليس فوق العرش - بناء على تلك المقدمات، وهو أنه لو كان كذلك لكان جسما، والأجسام متماثلة، والله قد نفى المثل؟

ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون: لو كان متصفا بذلك لكان جسما، ولو كان جسما لكان منقسما، والمنقسم ليس بواحد، والله قد أخبر أنه واحد. مع أنه لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم [ ص: 115 ] من الأمم، استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسما ومنقسما، كقوله تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا [سورة المدثر: 11] .

وقوله تعالى: وإن كانت واحدة فلها النصف [سورة النساء: 11] .

وقوله: واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب إلى قوله: قال له صاحبه وهو يحاوره [سورة الكهف: 32-37] .

وقوله: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [سورة البقرة: 266] .

وقوله تعالى: ولا يظلم ربك أحدا [سورة الكهف: 49] .

وقوله: ولا يشرك في حكمه أحدا [سورة الكهف: 26] .

وقوله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [سورة الكهف: 110] .

وقوله: ولا تستفت فيهم منهم أحدا [سورة الكهف: 23] .

وقوله: قل إني لن يجيرني من الله أحد [سورة الجن: 22] .

وقوله: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [سورة الجن: 18] .

وقوله: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [سورة التوبة: 6] . [ ص: 116 ]

وقوله: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا [سورة يوسف: 36] .

إلى قوله: أما أحدكما فيسقي ربه خمرا [سورة يوسف: 41] .

وقوله: قالت إحداهما يا أبت استأجره [سورة القصص: 26] .

إلى قوله: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين [سورة القصص: 27] .

وقوله: ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص: 4] .

والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد، وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد، ورأس واحد، وذكر واحد، وأمير واحد، وملك واحد، ومسكن واحد، وسيد واحد، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.

فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما، لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه، بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه، فلو قدر وجود هذا في الخارج، أو إمكان وجوده، لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ (الواحد) في لغة العرب يعبرون بها عنه، إذ ليس كل ما وجد، أو أمكن وجوده، يجب أن يتصوره أهل اللغة، ويكون داخلا فيما عبروا عنه من لغتهم. . [ ص: 117 ]

وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ (الواحد) و (الأحد) في لغتهم عن هذا، لم يجز أن يقال: إن لفظ (الواحد) في لغتهم لا يقع إلا عليه، لما ذكرناه أن لفظ (الواحد) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسما منقسما، وذلك ليس بواحد عندهم، فمسمى الواحد عندهم منتف في اللغة، وإن قدر وجوده لكان نادرا في اللغة.

والغالب المشهور في اللغة أن اسم (الواحد) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: وإلهكم إله واحد [سورة البقرة: 163] ، وقوله: قل هو الله أحد ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه أحد، وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه، متصفا بالصفات مباينا لغيره، مشارا إليه.

وما لم يكن مشارا إليه أصلا، ولا مباينا لغيره، ولا مداخلا له، فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، [لا] على مطلوبهم. [ ص: 118 ]

يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها، وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا. وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا، فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلا عن أن يعلموا أن لفظ "الحركة" موضوع له.

التالي السابق


الخدمات العلمية