الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
"وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي، ثم زعموا أنه حروف وأصوات، وقطعوا بأن المسموع من أصوات القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى، وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله، تعالى الله عن قولهم! وهذا قياس جهالاتهم. ثم قالوا: إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوما ورسوما وأسطرا وكلما فهي بأعيانها كلام الله القديم، فقد كان إذ كان جسما حادثا ثم انقلب قديما، ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو [ ص: 311 ] حرف وأصوات، وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات".

فلم يذكر أبو المعالي إلا هذا القول من قول المعتزلة والكلابية والكرامية. ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين، ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين، ولا سمعناه من أحد منهم. فما سمعنا من أحد، ولا رأينا في كتاب أحد أن المداد الحادث انقلب قديما، ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم، بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول، وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب.

وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم، بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين، ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر، فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل، ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها، مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا، وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه. وما كل من قال قولا التزم لوازمه، بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم، فالحاكي يجعل ما [ ص: 312 ] يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله، لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما، فإنه يجعله قولا بطريق الأولى.

ولا ريب أن من الناس من يقول: هذا القرآن كلام الله، وما بين اللوحين كلام الله، ويقول: إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن، مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف. وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسملين، ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد: أقديم هو؟ أنكر ذلك، وربما سكت عن ذلك، وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات، خشية أن يجره ذلك إلى بدعة، مع أنه لو سمع من يقول: "إن المداد قديم" ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم.

التالي السابق


الخدمات العلمية