الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين وأهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة "حلول الحوادث" وكانت المعتزلة تقول: إن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود، ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال، ونفي [ ص: 11 ] مباينته للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبادات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب، فإنهم إذا قالوا "إن الله منزه عن الأعراض" لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر ؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا.

وكذلك إذا قالوا: "إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات" أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم: أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب إلى شيء، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية.

وإذا قالوا: "إنه ليس بجسم" أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك. [ ص: 12 ]

وإذا قالوا: "لا تحله الحوادث" أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك.

وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات، وكان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب " الإرشاد " فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه [ ص: 13 ] يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له معاون.

فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه.

ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقا، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: "إنه لا يرجع إلى السمع في الصفات" ولا يقولون: "الأدلة السمعية لا تفيد اليقين" بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم، وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفا على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا [ ص: 14 ] الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟

وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب " الإرشاد " وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات ؛ لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار.

فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولون: إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا [ ص: 15 ] الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة: المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. [ ص: 16 ]

ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة ؛ فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل، فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية، وكذلك نفي الصفات. وأما هؤلاء فالمشهور عندهم أنه إذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة أنه تصديق للرسول، وإثبات الصانع أيضا معلوم بالضرورة أو بمقدمات ضرورية، فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية، بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية، فهم خير من المعتزلة في أصول الدين من وجوه كثيرة، وإن كان المعتزلة خيرا منهم من بعض الوجوه.

وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كالإبانة و " الموجز " و " المقالات " وغيرها، وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم، بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم، لكن الأشعري وأئمة أصحابه أتبع لأصول الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من أحواله، وممن اتبع ابن عقيل كأبي الفرج ابن الجوزي في كثير من كتبه، وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون ما ذكره من تناقض المعتزلة، وكان بين التميميين [ ص: 17 ] وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الائتلاف والتواصل ما هو معروف، وكان القاضي أبو بكر يكتب أحيانا في أجوبته في المسائل " محمد بن الطيب الحنبلي " ويكتب أيضا " الأشعري "، ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب، وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته، وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأبي عبد الله بن حامد وأمثالهم، فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية.

والأشعري وأئمة أصحابه، كأبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي والقاضي أبي بكر، متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد، وإبطال تأويلها، وليس له في ذلك قولان أصلا، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم يذكر أن ذلك قوله، ولكن لأتباعه في ذلك قولان. [ ص: 18 ]

وأول من اشتهر عنه نفيها أبو المعالي الجويني، فإنه نفى الصفات الخبرية، وله في تأويلها، ففي الإرشاد أولها، ثم إنه في "الرسالة النظامية" رجع عن ذلك، وحرم التأويل. وبين إجماع السلف على تحريم التأويل. واستدل بإجماعهم على أن التأويل محرم، ليس بواجب ولا جائز، فصار من سلك طريقته ينفي الصفات الخبرية، ولهم في التأويل قولان، وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم مثبتون لها، يردون على من ينفيها أو يقف فيها، فضلا عمن يتأولها.

التالي السابق


الخدمات العلمية