الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ 6 ] الإنجـاز الحضـاري ليس هـدفا نهائيـا..

          إن الإسلام وهو يحض المسلمين على التسارع الحضاري: عملا وإنجازا وإبداعا مسئولا، ويعلن رفضه للكسل والقعود والاتكال والعبور السالب للعالم دون تغيير أو إعمار، لا يتجاوز، انطلاقا من موقعه الوسطي الشامل، مسألة في مقابل هـذا كله على غاية في الأهمية؛ لأنها تعد إحدى الملامح الأساسية الفاصلة بين التجربتين [ ص: 134 ] الحضاريتين: الدينية والوضعية، تلك هـي التأكيد الدائم على أن حياة الإنسان في الأرض فردا وجماعة ليست أبدية دائمة، إنما هـي عابرة موقوتة، وأن معطياته فيها ليست خالدة باقية، إنما هـي معرضة في أية لحظة للدمار والزوال بناء على طبيعة " الحياة الدنيا " القائمة على: التغير والتنوع والصعود والهبوط والميلاد والموت.. وأن الحياة الحقيقية هـي الحياة الأخرى التي تتميز بالبقاء والدوام، والتي كتب للإنسان فيها الخلود المطلق، ومن ثم فإن كل ما يقدمه في هـذه الحياة الفانية من أعمال ومنجزات يجب ألا يكون هـدفا بحد ذاته كما هـو الحال في جل التجارب الوضعية، إنما وسيلة فيحسب لتهيئة الحياة الدنيا، لعبادة الله وحده، وإيجاد المناخ المناسب لممارسة " الاستخلاف " ..

          وهكذا يغدو الإنجاز الحضاري في الإسلام وسيلة إلى غاية أكبر، ويكتسب في الوقت ذاته " أخلاقية " لا نجدها في سائر الحضارات تصده عن استخدام طاقاته وقدراته في غير الطريق الذي تحتمه هـذه الغاية الشريفة البعيدة التي لا تقف عند حد..

          إن القرآن الكريم من أجل أن نظل دوما في الموقف الوسط الذي يميزنا عن سائر المواقف القلقة النسبية المتأرجحة يحدثنا في أكثر من موضع عن هـذه المسألة.. إلا أنه يجب ألا يخطر ببالنا لحظة أنه يدعونا للزهد أو الفرار؛ لأن هـذا يمثل تناقضا أساسيا مع مجمل معطياته، ومع تأكيده في مئات المواضع على ضرورة العمل والإبداع. إنما هـو تقرير للحقيقة النهائية، وتثبيت للموازين العادلة، وعرض مقارن لعالمي الفناء والبقاء ورؤية للمؤمنين تصدهم عن الإفساد والطغيان : [ ص: 135 ]

          ( وما هـذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( العنكبوت: 64 ) . ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ( الحديد: 20) .

          ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هـشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) ( الكهف: 45 – 46 )

          ويتضح هـذا المعنى الأخلاقي الإيجابي للمسألة من خلال العديد من الآيات التي تندد بالغرور البشري الذي ينبثق عن الالتصاق الكامل بالحياة الدنيا، ويتمخض عن الظلم والإفساد والطغيان: ( ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هـزوا وغرتكم الحياة الدنيا ... ) ( الجاثية: 35 ) .

          ( ... وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ( الأنعام 130 ) .

          ( ... فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) ( لقمان: 33 ) [ ص: 136 ]

          ( بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا ) ( فاطر: 40 ) .

          ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ( آل عمران: 185 ) .

          أن نسبية التجارب البشرية وعدم دوامها لا تبدون فقط بعرضهما على مطلقات الآخرة وخلودها، إنما من خلال حركة التاريخ البشري كذلك.. الحركة الدائمة التي ترفع وتخفض وتقدم وتؤخر وتنشئ وتعيد بإرادة الله ووفق نواميسه في الكون:

          ( نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ( يونس: 24 ) .

          ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هـذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) ( آل عمران: 137 – 141 ) [ ص: 137 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية