الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ( أ ) السـببية...

          من خلال التمعن في نسيج كتاب الله نجد كيف منحت آياته البينات العقل المسلم رؤية تركيبية للكون والحياة والإنسان والوجود.. تربط وهي تتأمل وتبحث وتعاين وتتفكر بين الأسباب والمسببات.. تسعى [ ص: 48 ] إلى أن تضع يدها على الخيط الذي يربط بين الظواهر والأشياء في هـذا الحقل أو ذاك وفي هـذه المساحة أو تلك.. لقد أراد القرآن الكريم أن يجتاز بالعقل العربي مرحلة النظرة التبسيطية المسطحة المفككة التي تعاين الأشياء والظواهر كما كانت متقطعة معزولة منفصلا بعضها عن بعض..

          وهي خلال ذلك لا تملك القدرة على الجمع والمقارنة والقياس والتقاط عناصر الشبه وعزل عناصر الاختلاف.. لا تملك إمكانية التركيب والاختزال والتركيز للوصول إلى الدلالات النهائية للظاهرة من خلال معاينة ارتباطاتها وعلائقها بالظواهر الأخرى..

          ولقد تمكن القرآن الكريم بطرقه المستمر على العقلية التبسيطية أن يعيد تشكيلها لتبعث من جديد بالصيغة التي أرادها لها: عقلية تركيبية تملك القدرة على الرؤية الاستشرافية التي تطل من فوق على حشود الظواهر بحثا عن العلائق والارتباطات ووصولا إلى الحقيقة المرتجاة..

          بل إن إحدى طرائق القرآن المنبثة عبر سوره ومقاطعه من أقصاها إلى أقصاها هـي: التأكيد على ضرورة اعتماد هـذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الخالق سبحانه.. إذ بدون هـذه القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات فإن العقل المؤمن لن يكون قادرا على التحقق بالقناعات الكافية ولن يكون بمقدور آيات الله المنبثة في الطبيعة والعالم والوجود أن تحدث فينا هـزة الإيمان العميق المتمخض دوما عن اكتشاف الارتباط المحتوم بين معجزة الخلق وبين الخالق.. [ ص: 49 ]

          لن يتسع المجال لاستعراض الآيات التي نادت المسلمين مرارا للتحقق بهذه الرؤية التركيبية والربط بين الأسباب فهي كثيرة جدا خاصة في العصر المكي حيث كانت ضرورات التربية العقيدية تقتضي التأكيد على تكوين عقليات كهذه.. تقارن وتركب وتربط بين الأسباب..

          ومن خلال هـذا التأكيد ذي الارتباط العميق بالموقف الإيماني عموما أصبح العقل المسلم يرى في رؤية كهذه ضرورة من الضرورات بل بداهة من البداهات.. وراح يمارسها صباح مساء ويتمرن على الأخذ بها والعمل وفق شروطها حتى غدت بالنسبة له تقليدا عقليا سائدا.. وغدا الكون والعالم والطبيعة والوجود -في مقابل هـذا- سلسلة من الظواهر والمعطيات يرتبط بعضها ببعض بأوثق الأسباب..

          لقد انتهى عهد التفكك والعزلة والتبسيط..

          إن الكون الذي هـو تعبير عن إبداع الخالق تحكمه قوانين واحدة وأسباب واحدة ونواميس واحدة تصدر عن إرادة واحدة..

          ولن يتحقق فهمه أبدا ما لم ينظر إليه من خلال رؤية عقلية تعرف كيف تجمع وتلم وتقارن وتختزل وتركب.. وصولا إلى الحقائق التي تبغيها..

          إن الكشف عن (السببية) والأخذ بشروطها المنهجية كسب كبير للعقل البشري وإضافة قيمة مكنته من إعادة التشكل في صيغ أكثر قدرة على ا لعطاء والإبداع.. [ ص: 50 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية