الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ( ب ) القانونيـة التاريخيـة...

          ولأول مرة في تاريخ الفكر يكشف الغطاء أمام العقل البشري عن حقيقة منهجية على درجة كبيرة من الخطورة: إن التاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هـدف وإنما تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء.. سواء بسواء.. وإن الوقائع التاريخية لا تخلق بالصدفة وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هـذه الصفة أو تلك وتوجهها صوب هـذا المصير أو ذاك..

          القانون يحكم التاريخ.. تلك هـي المقولة التي لم يكن قد كشف النقاب عنها قبل نزول القرآن الكريم.. إن كتاب الله يقدم أصول " منهج " متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع فحسب إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية التاريخية كما فعل ابن خلدون -فيما بعد- على سبيل المثال فأعطى بذلك الإشارة لغيره من فلاسفة التاريخ الذين ما تلقوا إشارته تلك وبنوا عليها إلا بعد انقضاء خمسة قرون ؛ وهذا يتمثل بالتأكيد المستمر في القرآن على قصص الأنبياء وتواريخ الجماعات والأمم السابقة وعلى وجود " سنن " و " نواميس " تخضع لها الحركة التاريخية في سيرها وتطورها وانتقالها من حال إلى حال. ولقد وقع كثير من الباحثين وفلاسفة التاريخ المعاصرين في خطأ القول بأن ( ابن خلدون ) هـو أول من مارس هـذا (المنهج) وأنه لا توجد قبله أية محاولة في هـذا السبيل. [ ص: 51 ]

          إن " المنهج " الجديد الذي يطرحه القرآن الكريم يؤكد أكثر من مرة على أن " التاريخ " لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يتخذ ميدانا للدراسة والاختبار تستخلص منه القيم والقوانين التي لا تستقيم أية برمجة للحاضر والمستقبل إلا على هـداها وليس الأسلوب الفني في العرض سوى جسر تحمل عليه العروض والنتائج النهائية لأية ممارسة في حقول التاريخ..

          إن القرآن يطرح على العقل البشري -إذا- ولأول مرة مسألة " السنن " و " النواميس " التي تسير حركة ا لتاريخ وفق منعطفها الذي لا يخطئ عبر مسالكها " المقننة " التي ليس إلى الخروج عليها سبيل لأنها منبثقة من صميم التركيب البشري، ومعطياته المحورية الثابتة فطرة وغرائز وأخلاقا وفكرا ووجدانا، ومن قلب العلاقات والوشائج والارتباطات الظاهرة والباطنة في العالم الذي يتحرك فيه الإنسان، والتي تتجاوز في اتساعها وشموليتها نسبيات البيئة الجغرافية، أو الوضع الاقتصادي لكي تتسع للفعل التاريخي نفسه، الفعل القائم على القيم الثابتة القائمة في كيان الإنسان والتي تنبثق عنها الموافق التاريخية سلبا وإيجابا؛ ومن ثم فإن حكمها على هـذه " الحركة " يجيء منطقيا تماما لأنه أشبه " بالجزاء " الذي هـو من جنس " العمل " ومن خامه الأصيل، وعادلا تماما لأنه يكافئ الإنسان فردا وجماعة بما يوازي طبيعة الدور التاريخي الذي مارسوه، حتى لكأن القرآن يلفت أنظارنا إلى أننا نستطيع أن نرتب على مجموعة معينة من الوقائع التاريخية سلفا نتائجها التي تكاد تكون محتومة لارتباطها الصميم بمقدماتها اعتمادا على استمرارية السنن التايخية ودوامها.. [ ص: 52 ]

          وعلى العكس فإن أي تأخر أو اهتزاز في نفاذ هـذه السنن سوف يؤول إلى تميع الحركة التاريخية، وعدم انضباطها جزئيا، وبالتالي يؤول إلى موقف نقيض لمفاهيم الحق والعدل.. ومن أجل أن نطمئن يبين لنا القرآن في أكثر من موضع ثبات هـذه السنن ونفاذها وعدم تبدلها أو تحولها، إنها موجودة أساسا في صميم التركيب الكوني، وفي قلب العلاقات المتبادلة بين الإنسان والعالم.. ولم يفعل القرآن سوى أن كشف عنها النقاب، وأكد وجودها وثقلها في حركة التاريخ، وأنها لا تأسر نفسها في تفاصيل وجزئيات موقوته، بل تمتد وتمتد مرنة منفتحة شاملة لكي تضم أكبر قدر من الوقائع، وتلامس أكبر عدد من التفاصيل والجزئيات، وتبقى دائما الحصيلة النهائية، والرموز المكثفة، والدلالات الكبرى لحركة التاريخ.

          إنها تريد أن تقول لنا -باختصار وتركيز بالغين- إن حركة أية جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية وإنها بما قد ركب فيها من قوى العقل والروح والإرادة -خلافا لما هـو سائد في العوالم غير البشرية- مسئولة مسئولية كاملة خلال حركتها تلك حيث ينتفي العبث واللاجدوى، وحيث تتحرك الحرية من شكلها المهوش المتميع الغامض إلى عمل مدرك مخطط يقف به الإنسان أمام الله بمسئوليته تجاه العالم لكي يحقق إعماره ورقيه وتقدمه وفق ما يجيء به أنبياء الله حينا بعد حين من تعاليم وخطط تأخذ بيد الجماعة البشرية في هـذا الطريق.. وحيثما انتفت هـذه العلاقة الإيجابية بين الإنسان والله والعالم وأسيء استخدام " الحرية " وضاعت المسئولية وانعدم التخطيط المدرك الواعي وتميعت القيم الأخلاقية المنبثقة عن قوى [ ص: 53 ] العقل والروح والإرادة، حيثما جاء الجزاء الموازي لجنس العمل وآل الأمر بالجماعة البشرية إلى التدهور التفتت والانهيار: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( الأحزاب: 62 ) .

          ( ... فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) ( فاطر:43 ) .

          ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الإسراء: 77 ) .

          ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ) ( الكهف: 55) .

          ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( الفتح 22 – 23 )

          التالي السابق


          الخدمات العلمية