الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الأول]

الدكتور / عبد المجيد النجار

4 - دور الواقع في فهم الدين

نعني بالواقع: ما تجري عليه حياة الناس، في مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث، فهل للواقع بهذا المفهوم دور في فهم الدين، الذي جاءت به نصوص الوحي، وإن كان ذلك، فما هـي طبيعة هـذا الدور؟

يمكن أن نلاحظ مبدئيا أن الدين خطاب معبر عن حقائق أزلية، تتسع لتعالج أوضاعا واقعية متغيرة، ولكنها لا تتبدل في ذاتها بتبدل الواقع. ومن جهة أخرى فإن واقع الحياة الإنسانية، هـو واقع مخلوط فيه الحق بالباطل، بل لعل الباطل فيه أغلب، فكيف يمكن أن يكون له مدخل في فهم الدين، الذي حقائقه أزلية؟

إن فهم الدين من نصوصه، يتم بالنظر العقلي، والعقل الإنساني مهما كان مبنيا على المنطق الصحيح في أصل فطرته، فإنه [ ص: 111 ] يتأثر في بنائه التكميلي بواقع الحياة وأوضاعها؛ إذ هـو ينمو ويتكامل في خضم ذلك الواقع، وهو ما يمثل تدخلا غير مباشر للواقع في الفهم عامة، بما في ذلك فهم الدين، إلا أن هـذا التدخل لا تنشأ منه حتمية الخطأ، إذا كان الواقع منحرفا، بل إنه يكون تبعا في الرشد وعدمه للمنهج العام، الذي يتبعه العقل في التفكير.

والبيان الديني للأحكام، بيان ظني في كثير منه، كما مر بيانه، يحتمل وجوها متعددة من المعاني، يمكن أن يؤخذ ببعضها دون الآخر، بحسب المرجحات، وبعض المراد الإلهي ليس مناطا لبيان مباشر، وإنما هـو موكول لبيانات كلية، موجهة للمقاصد العامة، بحيث ينفسح فيها المجال أكثر من النوع السابق، لطرح الاحتمالات المختلفة، والموازنة بينها، بما يفضي إلى اعتماد أحدها.

وما يجري به واقع الحياة من نظم وأعراف، منه ما هـو مبني على أصول من الحق، فتتحقق به المصلحة والنفع، وذلك بناء على حكم صائب للعقل، أو تجربة عملية أفضت إلى ثبوت النفع والنجاعة، وذلك كله معهود في حياة المجتمعات المختلفة.

وهذه المعطيات الثلاثة: صلة الواقع بالبناء العقلي، وظنية بعض البيانات الدينية، وحقانية بعض مظاهر الواقع، هـي التي يمكن أن ينبني عليها تقدير الدور، الذي يكون للواقع في فهم الدين [ ص: 112 ] تحديدا لطبيعته ومجاله؛ وتنبيها لما يحفه من إمكانات الانزلاق، التي تخرج به عن جادة الرشد وتوقعه في الانحراف.

ويتبين مبدئيا أن فهم الدين لا يمكن أن يتم بصفة تجريدية، مفصولة عن خضم الواقع الحياتي، بل يتم من خلال حوار متفاعل بين عناصر ثلاثة: النص الديني، والعقل المدرك، ونوازل الواقع وأحداثه. وفي هـذا التفاعل يتأمل العقل في مدلولات النص الديني، من حيث هـي أحكام مقصدها تقويم واقع الحياة وترشيده، فيكون إذا لهذا الواقع، الذي هـو موضوع التقويم، اعتبار في عملية الفهم على النحو الذي سنبينه تاليا.

ويضيق هـذا التفاعل إلى درجة قصوى، في فهم النصوص القطعية، في ورودها ودلالتها؛ ذلك أن هـذه النصوص هـي في عمومها موجهة لحياة الإنسان المطلقة، التي لا ينظر فيها إلى الظرف الزماني والمكاني، باعتبارها المحور الثابت، الذي تدور عليه الحياة، فيحفظ سمتها الأصلي المتقوم بالحق الدائم، ويحفظ بالتالي ثبات الحقيقة الدينية واستمراريتها. ومن أمثلة هـذه النصوص، التي يضيق فيها دور الواقع في فهمها، ما يتعلق بالعقيدة، والعبادات، وأحكام الحدود، فهي نصوص قطعية في أغلبها تحمل معاني يقينية ثابتة، متعالية عن أحداث الواقع المتغيرة من حيث الفهم. [ ص: 113 ]

ويتسع دور الواقع في فهم النصوص الظنية، وفي استنباط الأحكام، مما لا نص فيه حيث يكون للعقل مجال للترجيح بين الاحتمالات، أو الاجتهاد وفقا للمقاصد العامة، وحينئذ فإنه يمكن أن يستخدم مجريات الواقع، في ذلك الترجيح والاجتهاد، على أنحاء مختلفة.

فقد يكون في واقع حياة الناس عادات وأعراف، جارية على أصول من الحق، تظهر ثمرتها الخيرة في تحقيق المنافع المختلفة لهم. وقد تكون هـذه العادات والأعراف متعلقة بما كان مناطا لبيان نصي ظني، وحينئذ فإنها تكون مرجحا قويا، ليصرف ذلك البيان إلى الاحتمال الذي ينطبق عليها، فيصبح ذلك الاحتمال هـو المفهوم الديني، الذي يحصله العقل، على أنه مراد إلهي، تحكيما في ذلك للواقع الذي جرت به تلك العادات والأعراف [1] .

وقد يكون من العادات والأعراف، ما يتحقق به الخير، في جانب من جوانب الحياة، مما لم يرد فيه نص ديني، سوى الإرشاد المقصدي العام، وحينئذ فإن العقل في اجتهاده بحثا عن المراد الإلهي، في كل شأن من شئون الحياة، يمكن أن يحكم بأن ما أثبت العرف صلاحه هـو المراد الإلهي، ويتبناه على أنه حكم [ ص: 114 ] ديني، ينضاف إلى المنظومة الدينية المتكاملة، التي تغطي أوجه الحياة كلها، ويكون بذلك للواقع دور في فهم الدين، باعتماد العرف الصالح، على أنه جزء من الدين، حينما لا يرد فيه نص، ولا يكون معارضا لنص [2] .

وقد يكون في واقع الحياة أوضاع فاسدة، وعادات زائغة عن الحق، مفضية إلى المفسدة، وتكون تلك الأوضاع والعادات مما يتعلق بها نص ديني بحكم ظني، وحينئذ فإنه يمكن للعقل أن يوازن بين احتمالات النص الظني، فيختار منها ما يكون فيه علاج أبين، لما فسد من الأوضاع والعادات، فيصبح ذلك الاحتمال محمولا على أنه هـو الدين، ويعتمد مرادا إلهيا، بناء على تلك المشاهد، من الواقع [3] .

وهذا الدور الذي يؤديه الواقع في فهم الدين، أسس عليه بعض أئمة الفقه، وعلماء الأصول، قواعد تشريعية، اعتمدوها في تقرير [ ص: 115 ] أحكام الدين، والاجتهاد في معرفة المراد الإلهي. ومن أهم تلك القواعد ما عرف في الأدب الأصولي، بأدلة المصلحة المرسلة ، والعرف ، والاستصحاب ، ومعناها أن يتخذ مصدرا للتشريع كل من الوقائع التي لم يشهد لها دليل معين من الشرع، بالاعتبار والإلغاء وفيها تحقيق لمصلحة، والعادات التي يعتادها الناس في حياتهم غير مخالفة لحكم شرعي، وما يفعله الناس مطلقا في تصرفاتهم، مما لم يرد فيه منع [4]

، بحيث يتخذ العقل بالاجتهاد من هـذه المشاهد الواقعة أحكاما دينية، معبرة عن المراد الإلهي، فتصبح تلك المصالح والأعراف والتصرفات العفو، مادة لصياغة فهم ديني، يكون جزءا من دين الله المتوجب على الناس تطبيقه.

وقد شهد هـذا الدور، الذي يمكن أن يؤديه الواقع في فهم الدين، تجاذبا بين طرفين متناقضين، في تاريخ الفكر الإسلامي قديمه وحديثه. فقد كان أكثر الأئمة الأوائل يولون أهمية لهذا الواقع، في فهم الدين، وخاصة منهم الإمام مالك ، الذي توسع فيه توسعا مشهورا. ولكن بمرور الزمن، وتناقص الثراء، في الواقع الحضاري للمسلمين، والميل إلى التمسك بالفقه النظري، [ ص: 116 ] الذي هـو أقل عرضة للاختلاف، تناقص الاهتمام بأصول الواقع في فهم الدين، وأسقط من الاعتبار في هـذا المجال، في جملة ما أصاب الفكر الديني عامة، من بعد عن التفاعل مع واقع الحياة الإسلامية.

وفي مقابل ذلك، ظهرت منذ القديم نزعة تنحو منحى المبالغة في دور الواقع في فهم الدين، حتى اتخذ من أعرافه وأوضاعه، التي يظن أن فيها مصلحة للناس سلطان على الأحكام الشرعية المنصوص عليها. فأصبح الدين يفهم مما يجري به الواقع، وإن يكن مخالفا لما جاءت به نصوص الوحي. وممن وقع في هـذه المبالغة في تحكيم الواقع في فهم الدين، أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716هـ ) الذي قال بتقديم المصلحة الواقعية، على النص في المعاملات، سواء كان ظنيا أو قطعيا [5] .

وفي هـذا العهد نشطت هـذه النزعة المحكمة للواقع، يدفعها الانهزام الحضاري، الذي يعيشه المسلمون، وينبهرون فيه بالنمط الواقعي للحضارة الغربية، مما جعل بعض الباحثين يقيمون من هـذا النمط في وجوه مختلفة أصلا لتقرير أحكام الدين، صرفا للنظر عن [ ص: 117 ] النصوص اليقينية الدلالة والثبوت، باعتبار أن ما تحمله من الأحكام محدود بالزمان والمكان، خاضع لاعتبارات الظروف التي نزل فيها، فيكون معناه قد انقضى بانقضاء زمنه وأسباب نزوله. ذلك ما يراه حسن حنفي ، من بين رواد هـذه الوجهة حيث يقول: " أصول التراث نفسـه- وهو الوحي - مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقا له، وأصول التشريع كلها تعقيل للواقع، وتنظير له، ولكن الواقع القديم تخطته الشريعة، وجاوزه التشريع، إلى واقع أكثر تقدما، في حين أن واقعنا الحالي الذي يقام التجديد عليه، لم يتخطه أي تشريع بعد، وتظل كل التشريعات أقل مما يحتاجه، ويظل هـو متطلبا لأكثر مما تعطيه التشريعات " [6] .

وبين هـذين التطرفين، اللذين يقطع أولهما صلة الاجتهاد في فهم الدين بالواقع، ويهدر ثانيها ثوابت الدين بمجريات الأحداث، يبقى الموقف الوسط هـو الموقف المشروع، متمثلا في الاستنارة بواقع الحياة الإنسانية، في تأسيس الأفهام الدينية تحديدا للمراد من مظنون النص، واستحداثا لما ليس فيه نص، فيصير بالاجتهاد حكما دينيا تقيدا في كل ذلك بالضوابط المقصدية العامة، التي تضمن وحدة الدين وثباته واستمراريته على السمت الصحيح. [ ص: 118 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية