الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الأول]

الدكتور / عبد المجيد النجار

1- الدين بين المراد الإلهي وبين الفهم البشري

لقد تضمنت نصوص الوحي الهدي الديني على مستويات مختلفة، فبعضها تضمن هـذا الهدي بصفة قطعية في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يفهم منها إلا وجه واحد، هـو المراد الإلهي على وجه اليقين. وبعضها تضمن معاني بصفة ظنية في الدلالة، بحيث يمكن أن يفهم منها أكثر من وجه واحد من الوجوه المحتملة. وبعضها لم يتضمن إلا إرشادا عاما مقصديا، ينير السبيل في المجالات، التي لم ترد فيها هـداية نصية مباشرة.

ومن البين أن النوع الأول تعين فيه المراد الإلهي، فليس للعقل البشري إلا أن يكون محصوله في الفهم مطابقا لذلك المراد، أي مطابقا لما تضمنه النص القطعي من دين. ولكن النوع الثاني والثالث على وجه الخصوص، بما بنيا عليه من ظنية في حمل معاني [ ص: 82 ] الدين، فإن العقل لما يتوجه إليهما بغية الفهم للمراد الإلهي، حتى يتخذ دينا، قد يصيب ذلك المراد، وقد يخطئه، بمقتضى الظنية، وحينئذ فأيهما يعتبر دينا، هـل هـو المراد الإلهي في حقيقته، أو هـو المحصول الاجتهادي من الفهم، حتى وإن أخطأ ذلك المراد؟ أو أن ذلك المراد لا يكون في بعض الحالات محددا سلفا، وإنما يكون تبعا للفهم الاجتهادي، فيصبح ذلك الفهم دينا في أي صورة انتهى إليها الاجتهاد؟

وقد تبدو هـذه المسألة غير ذات أهمية عملية، تتناسب مع الغرض الذي التزمناه من هـذا البحث. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، نظرا للمساحة المتسعة لما هـو ظني من الدين، حيث تشمل أكثر الأحكام المصرفة لشئون التعامل بين الناس، وضمنها تندرج الاجتهادات التي تبغي حلولا دينية لمستجدات الأوضاع في حياة الفرد والمجتمع، وهي في حال المسلمين اليوم متراكمة أشد ما يكون التراكم، تنتظر أفهاما دينية، تجد على أساسها طريقها إلى الحل. إن هـذه الحيثيات كلها تشدد من وجوب التحري في الاجتهاد لفهم الدين إلى حدوده القصوى، حتى لا يئول أمر المسلمين إلى أن يتخذوا من خطرات العقل، وبنات الوهم، وثمرات الهوى، ما يحسبونه دينا يبغون به الفلاح في مسيرة التحضر. وإننا لنرى اليوم من بين المنتمين إلى الإسلام من يتجاوز ما هـو ظني من الدين، إلى ما هـو قطعي منه، يبغي له تأويلا عقليا بعيدا عن حقيقته، [ ص: 83 ] ويحسب ذلك التأويل دينا بل هـو الدين، وفي هـذا تندرج الدعوة إلى العلمانية ، وإبطال الحدود، وإجازة الربا، في نطاق تفسير الإسلام بما يلائم العصر، وهذا إهدار للحقيقة الدينية من أساسها.

وبهذا الاعتبار فإنه يصبح من المهم في فهم الدين، أن تعلم أولا حقيقة الدين، في تراوحها بين المراد الإلهي في ذاته، وبين ما يحصله العقل بعد اجتهاده في فهم ذلك المراد، وذلك من خلال النص في مستوياته الثلاثة، الآنفة الذكر، فمعرفة هـذا الأمر من شأنها أن تسدد عملية الفهم، وأن تفصل بين ما هـو دين، وبين ما هـو خواطر إنسانية ذاتية.

وقد كان الفكر الأصولي الفقهي على وعي عميق بهذا الأمر، فخصص من بين مباحث الاجتهاد مبحثا، ناقش فيه حقيقة الدين، هـل هـي حقيقة ثابتة معينة سلفا، ومستقلة عن الفهم البشري، أو هـي ثابتة في بعض القضايا، وتابعة للفهم الاجتهادي، بحيث يكون هـذا الفهم هـو المعين لها في بعض القضايا الأخرى؟ وعلى الرغم مما تفرعت إليه الأقوال في هـذا المبحث، مما قد يبدو أوغل في التجريد، فإننا نحسب أن تناول أصل القضية بالمطارحة مفيد في تسديد الفهم، الذي يؤدي إليه الاجتهاد، ولذلك ترجم هـذا المبحث في كثير من الكتب الأصولية بمبحث " الإصابة والخطأ في الاجتهاد " . [ ص: 84 ]

وخلاصة آراء الأصوليين في هـذه القضية، أن أحكام الله منها القطعي، مثل أصول العقيدة، وما علم من الدين بالضرورة، من أحكام الشريعة المنصوص عليها على وجه يقيني الدلالة، ومنها الظني، الذي يشمل الأحكام الشرعية المنصوص عليها على وجه يحتمل أكثر من معنى واحد، والأحكام التي يرد فيها نص ولكنها تندرج ضمن أصول الهدي العام.

والأحكام القطعية هـي أحكام معينة ثابتة، ينحصر الدين فيها في وجهها اليقيني الوحيد، فالناظر فيها لفهم الدين منها إن أصاب فهمه ذلك الوجه الوحيد فقد أصاب الدين، وإن أخطأه فقد أخطأ الدين وانحرف عنه وهو آثم بذلك. وعلى هـذا المعنى فليس لأحد أن يتأول في الفهم، ما جاء في النصوص، من أحكام التعبد، أو أنصبة الميراث، أو أنواع الحدود ومقاديرها، فيصدر بمحصول مخالف لها في ثبوتها أو في كيفيتها، ثم يدعي أن محصوله ذاك من الفهم يندرج ضمن الدين الإلهي، ويبشر به ويجري حياته عليه على ذلك الأساس.

وهذا الرأي الذي يكاد يجمع عليه الفكر الإسلامي الأصولي، يجد مبرره في المحافظة على الثبات في أصول الدين، حتى لا تصبح الحقيقة الدينية عرضة للنسخ، بحجة الاجتهاد العقلي، الذي تهدر فيه الدلالة اللغوية أصلا بتأول اليقيني منها، فلا يبقى إذا [ ص: 85 ] للدين الإلهي رسم ثابت، ويمكن أن تحل محله شريعة عقلية خالصة، مع الادعاء بأنها إلهية. ولا يخفى أن هـذا الأمر وقع شيء منه في تاريخ الفكر الإسلامي، متمثلا على وجه الخصوص في تأولات الباطنية ، التي أتت على كل حقيقة ثابتة في الوحي، واستعاضت عنها بأوهام إنسانية، ويقع شيء منه في التاريخ المعاصر، متمثلا في باطنية جديدة تسقط من الدين أحكاما يقينية، بحجة التقادم الزمني، وتستعيض عنها بأحكام وضعية، على أنها مراد إلهي، توصل العقل إلى فهمه بالاجتهاد.

أما الأحكام الظنية المنصوص عليها، أو الموجه إليها بالمقاصد العامة، فإن الأصوليين اختلفوا حيالها فرقتين " فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب، وإن حكم الله فيها لا يكون واحدا، بل هـو تابع لظن المجتهد، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب عليه ظنه " [1]

. وعرف هـؤلاء بالمصوبة لقولهم: بأن كل مجتهد مصيب لحقيقة الدين باجتهاده، ومن بينهم الإمام الغزالي الذي يقول في تبني هـذا الرأي: " والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى " [2]

. وذهب آخرون إلى أن: [ ص: 86 ] " المصيب فيها واحد، ومن عداه مخطئ ؛ لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معينا؛ لأن الطالب يستدعي مطلوبا، وذلك المطلوب هـو الأشبه عند الله في نفس الأمر. " [3]

. وعرف هـؤلاء بالمخطئة لقولهم : بأن المجتهد الذي لا يصيب مراد الله الثابت، فهمه خاطئ ولا يعتبر دينا [4] .

وهذا الخلاف بين الوجهتين هـو خلاف على مستوى نظري، يمكن أن يتحول على المستوى الفعلي إلى تضافر لترشيد الاجتهاد في الفهم، فيؤدي رأي المخطئة إلى التذرع بالمزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر، ويؤدي رأي المصوبة إلى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم، والركون إلى أفهام من سلف، ليتخذها الخلف دينا، يجرون عليها حياتهم، من حيث قد لا تكون مناسبة لأوضاعها وملابساتها.

وربما يكون رأي المصوبة أجدى عمليا، في تطوير حياة الإنسان وإخصابها بما يعود عليه بالنفع؛ ذلك لأنه رأي ينفسح فيه المجال، لأن تتحصل لدى المجتهدين عبر الأجيال أفهام تتغاير في [ ص: 87 ] نوع القضية الواحدة من قضايا الحياة، ويكون كل فهم منها محققا لمصلحة المسلمين في تلك القضية، بحسب تغاير أعيانها عبر الزمن، لتغاير ظروفها وملابساتها الشخصية، فإذا ما اطمأن المسلم إلى أن المراد الإلهي في الظنيات قد يكون مختلفا باختلاف الظروف العينية، وأن الأفهام قد تختلف تبعا لذلك، ولكنها لا تخرج عن أن تكون دينا إلهيا، فإنه حينئذ سيكون أكثر اندفاعا إلى معالجة أوضاع حياته المنقلبة بالزمن، بحلول تؤدي إلى تحقيق صلاحه. وهي في ذات الحين مشتقة من دين الله، الذي هـو ما يتوصل إليه العقل بالاجتهاد. إلا أن هـذا الموقف يستلزم قدرا كبيرا من الاعتصام بالإخلاص والتحري، دفعا لخاطرات الهوى الملحاحة في مثل هـذا المقام، والتي إذا ما وجدت منفذا إلى المجتهد صيرت أهواء الناس وأوهامهم دينا إلهيا، يتدينون به في حياتهم.

وكأني بفكرة التصويب كانت الأكثر رواجا بين الأصوليين والفقهاء الأقدم زمنا، فقد كانت تتلاءم مع الحركة الاجتهادية الفقهية، التي شهدت الازدهار، قبل القرن الخامس، لما في طبيعتها من دافعية للاجتهاد. وفي المصادر الأصولية، أن من المصوبة القاضي الباقلاني (ت 403هـ ) وأبا حامد الغزالي (تـ505هـ ) ، ومن قبلهما أغلب أصحاب الإمام الشافعي (تـ 204هـ ) وأبا الهذيل العلاف (تـ 235هـ ) وأبا علي الجبائي [ ص: 88 ] (تـ303هـ ) وابنه أبا هـاشم (ت 321هـ ) . فلما مال أمر الفقه إلى التقليد، أصبحت فكرة التخطئة أكثر رواجا بين الأصوليين، لأنها أكثر تلاؤما في طبيعتها مع التقليد [5] .

وبالنظر إلى وضع المسلمين اليوم، فإن مذهب التصويب أنسب لمعالجة عللهم، إذ هـو يدفع إلى أن يجتهد العلماء في فهم الظنيات من الأحكام، ليصدروا منها بأفهام تسدد الأوضاع الكثيرة المائلة عن سمت الدين، وتكون هـذه الأفهام مبنية على ما فيه صلاح هـذه الأوضاع، اعتبارا بمستجدات عناصرها، ومتشابك ملابساتها، ومتحررة من أفهام اجتهادية، قد تكون صدرت عن مجتهدين قدامى في ذات النوع من القضايا، ولكنها كانت مبنية على أوضاع وملابسات طواها الزمن، وبسط أوضاعا وملابسات جديدة، ثم تؤخذ هـذه الأفهام الاجتهادية الجديدة على أنها مراد إلهي، لتكون لها بذلك قوة النفاذ، وفعالية الإصلاح، وتعبئة النفوس للإنجاز، وعلى هـذا الأساس فإننا نعتبر الاجتهاد في الفهم يناسبه في واقع المسلمين اليوم أن يقوم على خلفية تصويبية، تنأى به عن التقليد، وتدفعه إلى التجديد مع استصحاب التحري، الذي يعصم من مدخلات الهوى ومفاتن الشيطان. [ ص: 89 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية