الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثاني

فـهـم الـديـن

تمهيد:

تقرر لدينا أن مصدر الدين هـو القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف. وإذا كانت السنة تشمل البيانات السلوكية العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وإقراراته للأعمال التي يشهدها، فإن الأصل في الدين يبقى هـو القرآن الكريم والسنة القولية، فهما المرجع الأول لكل من رام فهم الدين، والسنة الفعلية والاقرارية إنما هـي تطبيقات مساعدة على الفهم.

والقرآن والسنة القولية هـما بيانات نصية، جملت فيهما المعاني المعبرة عن المراد الإلهي، في وعاء من اللغة على اللسان العربي. وليست اللغة إلا رموزا، تحمل المعاني من القائل إلى السامع، وهي رموز تشتمل على عمليتين معقدتين:

الأولى إفراغ المعاني في رموز اللغة من تلقاء القائل.

والثانية تحليل الرموز إلى المعاني المشتملة عليها من تلقاء السامع. [ ص: 79 ]

وحينما تكون اللغة بشرية، فإن انتقال المعاني من القائل إلى السامع، عبر تينك العمليتين، من شأنه أن يصيب تلك المعاني بشيء من التفاوت، بين حقيقتها لدى قائلها، وبين صورتها التي تحصل عند سامعها. أو يجعلها على الأقل قابلة لأن تصاب بذلك التفاوت، وذلك لأن اللغة في حقيقتها الرمزية لا تحمل المعاني ولا تؤديها في كثير من الأحوال، إلا على سبيل الظن، مما يفسح المجال للاحتمال، والتأويل في المعاني المحمولة، وهو ما يكون به التفاوت المشار إليه آنفا.

ولغة القرآن والحديث بلغت من حيث حملها المعاني، وتعبيرها عن المراد الإلهي، الحد الأقصى في الكمال، وهو ما بلغ في القرآن الكريم درجة الإعجاز، وبلغ في الحديث النبوي درجة عليا من البلاغة، إلا أنه مع ذلك تبقى العملية الثانية وهي تحويل معاني القرآن والحديث إلى أذهان القارئين والدارسين لهما عملية تحمل إمكان التفاوت بين المراد وبين الحاصل، وعلى الأخص في الشطر الذي يعرف بظني الدلالة فيهما.

ولهذا الاعتبار فإن فهم الدين من أصله النصي ليس بالأمر الهين الذي يحصل على نحو أقرب إلى التلقائية، كما يظن بعض الناس، بل هـو أمر خطير الشأن، وخاصة إذا لابسته ظروف من الضعف، في فقه اللغة العربية، وقوانينها في التعبير، أو من الميل إلى [ ص: 80 ] التعسف في استخراج المعاني من وعائها اللغوي، وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نتبين في خطورة هـذا الأمر أن الانحراف في الفهم يؤدي إلى التشرع بما لم يرده الله، مع ما قد يجره ذلك من ضلال وخسران، وخاصة إذا كان نتيجة تعجل، لم يستفرغ معه الوسع في التبين والاجتهاد.

وليس فهم الدين من أصله النصي عملية آلية، يكفي فيها التحري في ملازمة ظاهر القوانين اللغوية، بل هـي أعقد من ذلك بكثير. فالنص الديني نفسه، ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعا في كل مكان وزمان، باعتبار خاتمية الوحي فيه، وهذا ما يجعل المجموع النصي يحمل من كنوز المعاني، ما لا يستنفده فهما جيل واحد من المسلمين، بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله، وذلك وجه من وجود إعجازه. كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف، التي يكسبها من خارج دائرة النص، بل إن لها علاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته، سواء ما كان منها من نزول الوحي، أو زمن عملية الفهم.

وسنحاول فيما يلي أن نرسم ملامح أساسية لضوابط وقواعد عامة من شأنها أن تسدد عملية فهم الدين من النص، والملاحظ أن علماء أصول الفقه قد فصلوا القول في ضوابط الفهم وأسسه، ولكننا في هـذا المقام سنعمد إلى عرض أسس كلية لا جزئية تفصيلية، وذلك [ ص: 81 ] لأن هـذه الأسس الكلية هـي التي دار عليها عبر تاريخ الفكر الإسلامي تضارب الأفهام، إلى ما يصل إلى التناقض أحيانا، ولا يزال الأمر كذلك إلى يوم الناس هـذا. وسنقدم بين يدي هـذه الأسس مقارنة بين المراد الحقيقي من النص، وبين محصول الفهم البشري منه، فيما إذا كان هـذا الفهم يعتبر دينا، إذا كان متفاوتا مع المراد الإلهي، ففي هـذه المقارنة ما يساعد على بسط القول في ضوابط الفهم وأسسه.

التالي السابق


الخدمات العلمية