الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الأول]

الدكتور / عبد المجيد النجار

2 - أساليب الوحي في الهدي.

ذكرنا سابقا أن الدين هـو جملة ما أتى به الوحي من تعاليم، تبين حقيقة ما هـو كائن في الوجود، وما ينبغي أن يكون في حياة الإنسان. وإنما جاء الوحي بهذه التعاليم ليفقهها الناس، فكان بيانه متأسسا على هـذا المعنى، واتخذ من أساليب البيان في هـدي الإنسان إلى معرفة التعاليم الإلهية ما يناسب تمام المناسبة الغاية من الدين، وهي اهتداء الإنسان به في التصور والسلوك.

والمتأمل في الأساليب التي استعملها القرآن والحديث، في عرض الحقيقة الدينية على الإنسان، يلفيها مبنية على اعتبارين أساسين: أولهما أن الله تعالى حكما في كل ما يتعلق بحياة الإنسان التصورية والسلوكية " فلا عمل يفرض، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا " [1] [ ص: 52 ]

لا يخرج عمل إنساني وقع في الماضي، أو يقع في المستقبل، إلا وهو مأمور به أو منهي عنه [2] .

وثانيهما أن للإنسان قدرة على إدراك الحقيقة ذات حدود معينة، ومجالات محدودة، كما أنه في حياته عرضة لمنقلبات في الزمان والمكان، تجعله لا يثبت في تحقيق مصلحته على نمط معين من السلوك، في مواصفات مشخصة، وإن كان يثبت في ذلك على الأجناس العليا، كالعدل والأمانة، وما كان في حكمها على هـذين الاعتبارين: شمول الحكم الإلهي لأفعال الإنسان كلها، وواقع الإنسان في قدرته الإدراكية، وظروف حياته المتغيرة، انبنت أساليب الوحي في الهدي إلى المراد الإلهي، فيما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان.

وتتنوع هـذه الأساليب إلى ثلاثة أنواع أساسية مترددة في الإرشاد إلى الحقيقة، بين التفصيل، وبين الكلية والتعميم، حتى ليمكن أن نرتبها على النحو التالي: الهدي التفصيلي، والهدي الكلي، والهدي المقصدي. [ ص: 53 ]

إن هـذه الأساليب الثلاثة تنتظم في دوائر متواسعة، يندرج الأصغر منها في الأكبر. فثمة أحكام نزع فيها إلى التفصيل في البيان، والضبط المقيد لكيفية الفعل، حتى يكون جاريا بحسب الهدي الديني. وثمة أحكام أخرى نزع فيها إلى التعميم فتناولت بالأمر والنهي أجناس الأعمال دون تفاصيلها وكيفياتها، وهي بصفة جملية، تشمل النوع الأول، وتنفسح لغيره مما لم يقع تفصيله. وثمة أحكام ثالثة، بلغت من التعميم بحيث إنها لا تتناول أفعالا بأعيانها ولو في مستوى أجناسها، وإنما هـي تحدد المقاصد العامة، لما ينبغي أن تكون عليه أعمال الإنسان عامة، وهي بذلك تعم النوعين الأولين من الأفعال، وتنفسح إلى غيرها مما لم يرد فيه حكم لا على سبيل الضبط ولا على سبيل التعميم.

وعلى سبيل التمثيل، فإن من أسلوب الضبط والتحديد ما جاء في تحديد الميراث في قوله تعالى: ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) [النساء:11 ]، فهو بيان مفصل لكيفية ميراث الأبناء.

ومن أسلوب التعميم، ما جاء من أمر بالعدل في التعامل بين الناس، إذ يقول تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ) [النحل:90 ]. فالعدل المأمور به هـو وصف ضابط لجنس واسع من أعمال الإنسان، وهو يشمل الميراث الذي فصلت كيفيته في الأسلوب الأول. ويشمل غيره من سائر الأعمال التي يكون فيها تعامل بين الناس. [ ص: 54 ]

ومن أسلوب البيان المقصدي قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) [3]

، فإنه بيان لمقصد من مقاصد الشريعة التي تندرج تحتها كل الأفعال أعيانا وأنواعا وأجناسا، ما كان منها مبينا بأسلوب التفصيل، مثل ميراث الأبناء، أو مبينا بأسلوب التعميم، كالأعمال التي تحقق العدل، أو ما لم يتناوله بيان بذينك الأسلوبين مما يمكن أن يستجد في حياة الإنسان عبر الزمان.

ولهذه الأساليب الثلاثة، التي ورد بها الوحي في بيان الدين قواعد وضوابط في ذاتها، كما أنها تنطوي على حكم عظيمة، في مراوحتها بين التحديد والتوسيع، مما يفسح المجال للإنسان ليمارس التدين في مختلف ظروفة وأوضاعه، فهي لذلك أصل من الأصول التي يتوقف عليها الفهم الموفق لأحكام الدين، وهو ما يدعونا إلى أن نتناولها فيما يلي بشيء من التفصيل على النحو التالي:

( أ ) الهدي التفصيلي ورد هـذا الأسلوب في كل من القرآن والحديث، ولكن وروده في الحديث أكثر؛ وذلك لأن الحديث مفسر للقرآن فيما جاء من كلياته، كما أنه ألصق بأحداث [ ص: 55 ] الواقع وحيثياته، فكانت لذلك طبيعته قابلة لأن يكون أكثر تفصيلا. ولكن في القرآن والحديث معا لا يشمل ما ورد فيهما من الأحكام التفصيلية إلا قدرا قليلا من أعمال الإنسان، أما أكثرها فلم يتناوله التفصيل بل ترك للتعميم.

وتناول البيان التفصيلي أكثر ما تناول أعمال الإنسان القلبية والسلوكية، التي يقل فيها حظ العقل من التقدير المفضي إلى معرفة الحق، لما هـي منتسبة إليه من مجال، ليس من طبيعة العقل البحث فيه، وخاصة على سبيل التفصيل. ويتعلق الأمر في هـذا بأعمال القلوب في الاعتقاد بالغيبيات، وأعمال الجوارح في السلوك التعبدي، فقد جاء بيان الوحي فيهما على درجة من الضبط والتفصيل؛ وهو ما أشار إليه الإمام الشاطبي في قوله: " كل دليل ثبت فيها (أي في نصوص الوحي ) مقيدا غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية " [4] .

ومن أسباب شيوع التفصيل في المجال التعبدي، ما ذكره ابن عاشور من " أن العبادات مبنية على مقاصد قارة، فلا حرج في [ ص: 56 ] دوامها ولزومها للأمم والعصور، إلا في أحوال نادرة تدخل تحت حكم الرخصة " [5]

. ولعل هـذا السبب نفسه كان به للبيان التفصيلي حظ في أحوال الأسرة، إذ هـي مرشحة بحكم الفطرة الإنسانية العامة المستقرة لأن تجري فيها أساليب التعامل على قدر من الدوام، الذي يستلزم أحكاما دينية تنزع إلى الضبط والتفصيل.

وللبيان التفصيلي للأحكام طرق متنوعة، في تحديد الأفعال وضبطها. فقد يكون التحديد بضبط الكيفية التي ينبغي أن يجري عليها الفعل، وذلك مثل تحديد كيفية القسمة في المواريث ، وكيفية العقوبات الجنائية. وقد يكون بالتقدير الكمي للفعل، مثل تقدير مبالغ القصاص ، وعدد الزوجات في النكاح . وقد يكون بالتقدير الزمني، مثل الآجال المضروبة في كثير من العبادات، وبعض من المعاملات. وقد يكون بالتقدير المكاني، مثل تحديد الأفعال في منطقة الحرم ، في وقت الحج وفي غيره. وقد يكون تعيين الموضوع الذي يجري عليه الفعل، مثل تعيين المحارم في النكاح والقرابة في التوريث [6] .

وهذه التحديدات المختلفة، هـي تحديدات، تشمل فيها الأحكام مجالا ضيقا من الأفعال، بفعل القيود المختلفة التي تقيد [ ص: 57 ] بها، إلا أنها مع ذلك تبقى الأحكام فيها متناولة لها في مستوى الأنواع، التي تندرج فيها عينات غير منحصرة، من الأفعال الواقعية المتجددة بمشخصاتها عبر الزمن، فتكون تلك العينات خاضعة لتلك الأحكام في الحدود التي حدد بها نوعها.

ولكن ثمة ضرب آخر من التفصيل في أحكام الوحي، يكون فيه التحديد للحكم ليس متناولا لأنواع من الأفعال، بل هـو منصب على فعل بعينه، مما وقع في عهد نزول الوحي، مثل تلك الأحكام التي كان نزولها بأسباب من أحداث معينة، فإنها في الظاهر أحكام محصورة فيها، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هـي أحكام شاملة للنوع، الذي يندرج فيه ذلك الفعل المعين، الذي كان سبب النزول، وذلك اعتبارا لمبدأ عقدي هـو عموم التشريع الإسلامي للناس جميعا، ويستثنى من ذلك ما وقع البيان بتخصيصه كما مر ذكره [7] .

( ب ) الهدي الكلي ورد هـذا الأسلوب في القرآن والحديث، ولكنه في القرآن أغلب، إذ " تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كل لا جزئي، وحيث جاء جزئيا فمأخذه على [ ص: 58 ] الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم [8] .

وفي هـذا الهدي تتسع الأحكام الشرعية، فيما تشمله من أفعال الإنسان، بما يكون الحكم موجها لها في مستوى أجناسها العالية المشتملة على صور وأنواع عديدة من أفعال، تندرج كلها تحت الحكم، باندراجها في الجنس الذي جاء يهديه. وباتساع الأحكام بمقتضى هـذا الأسلوب، تنفسح مجالات تطبيقها لتغطي القدر الكبير من تصرفات الإنسان، في النطاق الفردي والاجتماعي والزمني. ومثال ذلك أن تحريم الظلم حكم شرعي، يتسع ليشمل في هـدي الإنسان كل أنواع الظلم، التي تصدر من الفرد، أو من المجموعة، وفي كل زمان ومكان، مهما تغيرت أشكالها وتبدلت مظاهرها.

وأكثر ما يكون هـذا الهدي الكلي في أحوال المعاملات بين الناس، وفي تصرفات الإنسان العمرانية، وهو ما قرره الشاطبي في قوله: " كل دليل شرعي ثبت في الناس مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هـي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر [ ص: 59 ] في المأمورات، والظلم والفحشاء المنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات " [9] .

وإنما كان الهدي كليا في أكثر هـذه الأحوال، لتكون الأحكام متسعة لصور متعددة من الأفعال، تكون ملائمة لمصلحة الإنسان في مختلف منقلبات حياته، فيتخذ منها ما يحقق المصلحة بحسب الظروف، وتكون كلها جارية على أساس من التدين لاندراجها ضمن الحكم الإلهي؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان في سلوكه التعبدي، وفي شطر كبير من حياته الأسرية، ينزع إلى الثبات والاستمرارية، استجابة لثبات فطرته واستمراريتها، فكانت أحكام الدين المتعلقة بها يغلب عليها الضبط والتحديد، فإنه في تصرفه الاجتماعي، وفي مناشطه التعميرية، تطوح به الظروف المتغيرة إلى أوضاع مختلفة، يحتاج لها إلى التغيير في نمط الاستجابة، لتحقيق مصلحته في كل تلك الأوضاع؛ ولذلك كان التشريع المتعلق بتلك التصرفات والمناشط مصوغا على هـيئة من الكلية تسع ذلك التغيير، وهذا أحد المعاني الأساسية، لمقولة إن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان، فمقتضاه " أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد " [10] . [ ص: 60 ]

ومما يتناسب مع هـذا الهدي الكلي، ويدعم أن يكون هـو الأسلوب الغالب في البيان الديني، ما جاء في السنة النبوية من تجنب للتفريع في الأحكام، ونزوع إلى التعميم فيها. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره المسائل في الأحداث الجزئية بحثا عن الحكم الشرعي فيها، حتى إنه قال في ذلك: ( أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ) [11]

، كما قال أيضا: ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) [12]

. وهذا يدل على أن التشريع النبوي منصرف عن التضييق في الأحكام، حتى تصبح متناولة للجزئيات من الأفعال، إلى البيان الكلي الذي يكون فيه فسحة للتلاؤم مع متغيرات الظروف.

وقد كانت هـذه السنة منهجا مرعي من قبل فقهاء الصحابة، والمجتهدين من الأئمة، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتشدد في أن تروى الأحاديث النبوية، حتى تقع الحاجة إليها في مستجدات النوازل، مع الحرص على أن يكون ما يروى منها مؤدى [ ص: 61 ] كما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مبينا فيه الحال الذي صدرت فيه، وذلك حتى يتبين ما هـو جزئي، مما هـو عام، فلا تحمل أحوال الناس العامة على ما هـو جزئي محدد. وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يكره أن تكتب عنه الفتاوى، كما يكره أن تفترض النوازل افتراضا لتطبق عليها أحكام قد لا تكون مناسبة لها من حيث الجزئية والكلية وذلك كله لغرض أن لا يقع تقييد تصرفات الإنسان، التي من شأنها التغير، بأحكام وضعت في أصلها لما هـو ثابت مستقر من أحواله، فينشأ الحرج الذي يعيق سعيه في النمو الحضاري [13] .

( جـ ) الهدي المقصدي قد لا يكون الهدي الديني متمثلا في إرشاد مباشر، يتناول بالبيان ما ينبغي أن يفعل، وما ينبغي أن يترك، من الأفعال الجزئية أو الكلية، وإنما يكون توجيها عاما يرشد إلى ما يريده الله تعالى، من قانون عام ينبغي أن تنتظم عليه أفعال الإنسان كلها، وذلك من حيث إن الشريعة الإلهية مبنية في أوامرها ونواهيها للإنسان على مقاصد تهدف إلى تحقيقها في حياته. فهذا الهدي هـو إرشاد إلى تلك المقاصد، لا إرشاد إلى كيفية جريان الأفعال في ذاتها. [ ص: 62 ]

ومن البين أن هـذا الأسلوب في الهدي أعم من الأسلوبين السابقين، إذ هـو مشتمل عليهما بجريانهما على أساسه، من حيث إن كل حكم جزئي أو كلي جار على أساس من مقاصد الشارع، كما أنه مستقل دونهما بالإرشاد فيما لم يرد فيه حكم من أفعال الإنسان المستجدة، فإنها ينبغي أن توجه بمقتضى مقاصد التشريع، التي جاءت في هـذا الأسلوب في الهدي الإلهي.

والمراد الإلهي فيما ينبغي أن تكون عليه أفعال الإنسان، وهو المعبر عنه بمقاصد الشريعة، هـو تحقيق مصلحة الإنسان، فأيما حكم من أحكام التشريع إنما مقصده أن يحقق مصلحة الإنسان، وأيما فعل من أفعال الإنسان إنما يكون شرعيا إذا كان فيه تحقيق لمصلحته المنضبطة وفق المراد الإلهي والمقصد العام للدين الذي تنضبط به مصلحة الإنسان هـو " حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه، بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه، من موجودات العالم الذي يعيش فيه " [14]

، وتندرج ضمن هـذا المقصد العام مقاصد جزئية تؤدي كلها إليه وتنتهي إلى تحقيقه.

وقد جاء البيان الإلهي في الإرشاد إلى المقاصد الشرعية، على أنحاء متفاوتة، في وضوح العرض لتلك المقاصد. فقد تعرض [ ص: 63 ] تلك المقاصد مستقلة بذاتها، في وضوح وجلاء، كما في قوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [البقرة: 185 ]، في الدلالة على مقصد التيسير ورفع الحرج، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) [15] .

في الدلالة على مقصد رفع الضرر عن الإنسان. وقد تعرض مضمنة في الأحكام، بالإشارة إلى علل المر والنهي فيها، كما في قوله تعالى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) [البقرة: 179 ] في الدلالة على مقصد حفظ الحياة، الذي جعل علة لحكم القصاص ، وكما في قوله تعالى: ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) [المائدة:91 ] في الدلالة على مقصد التآلف والتآخي، الذي جعل علة لتحريم الخمر والميسر. وقد تعرض بطريقة غير مباشرة، بأن تكون علة مبنية عليها الأحكام في غير تصريح بها، وإنما تعرف بملاحظة ذلك الأنبياء، عبر الاستقراء للعديد من الأحكام، فيحصل اليقين بأنهما قائمة على علة واحدة هـي مقصد الشارع، وذلك مثل ما جاء من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، والنهي عن الاحتكار، فاستقراؤها يفضي إلى أنها دالة على علة مشتركة هـي رواج الطعام، وتيسير تناوله، وهو مقصد للشارع [16] . [ ص: 64 ]

إن هـذه الأساليب الثلاثة في عرض الحقيقة الدينية تقوم في أدائها للمعروض على قواعد وضوابط، بعضها يرجع إلى قانون اللسان العربي في الدلالة، وبعضها يرجع إلى العلاقة بين النصوص قرآنا وحديثا، وبعضها يرجع إلى العلاقة المنطقية بين الكل والجزء، والعام والخاص، واللازم والملزوم، من الحقائق المعروضة. وهي بضوابطها وقواعدها المختلفة في الأداء تتضافر على تبليغ الدين إلى الإنسان، وهو في تحمل هـذا المضمون فهما واستيعابا لا بد أن يكون على بينة من تلك القواعد والضوابط، حتى يتم له فهم الدين على أساس متين.

التالي السابق


الخدمات العلمية