الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثالث

فـهـم الواقـع

تمهيد

نزل الدين لمعالجة واقع الإنسان، بحيث يتكيف هـذا الواقع بالصياغة التي تحقق المصلحة، اهتداء بتعليمات الوحي، ولكن انصلاح الواقع الإنساني، فيما تجري عليه الحياة الفردية والاجتماعية، لا يتم بصفة آلية، بمجرد استبانة الحق المتمثل في الوحي، مثلما تنصلح مشاهد الواقع المادي حينما تواتيها الظروف المناسبة لها؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتوسط بين الوحي، وبين الواقع الإنساني، فتصبح هـي الفاعلة فيه، ويكون حينئذ انصلاح الواقع بحسب ما تنفعل الإرادة بالوحي، وذلك هـو معنى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.

ولما كانت إرادة الإنسان، تتوسط تعاليم الوحي ومشاهد الواقع، فإن انفعال هـذا الواقع بتلك التعاليم أصبح خاضعا لشروط [ ص: 119 ] تتعلق بها. ومن أهم تلك الشروط فهم الواقع الإنساني، واستيعاب حقيقته، والوقوف على طبيعته، وعناصر تكوينه.

ومن السنة الماضية، أن أي موضوع وإن يكن ماديا، يراد أن يعالج معالجة ما لصياغته على نحو معين، يكون من الشروط الأساسية في نجاح تلك المعالجة، الانطلاق فيها من المعرفة بحقيقته، والوقوف على طبيعته وخصائصه؛ ذلك لأن تلك المعرفة يتوقف عليها رسم الخطة للمعالجة، كاتخاذ الأساليب والوسائل المتناسبة مع طبيعة الموضوع وخصائصه، فيكون الفعل فيه مجديا، ويكون انفعاله أيسر على جهد الإنسان. ولو وقعت المعالجة على غير هـدى من تلك المعرفة، لآل الأمر إلى سلسلة من التجارب المرهقة، التي قد تبوء بالفشل كلها.

وحينما يكون الواقع الإنساني موضوعا للمعالجة، فإن هـذا الشرط يصبح شرطا مشددا، وذلك باعتبار أن موضوع الواقع الإنساني موضوع بالغ التعقيد، لما تتفاعل فيه من عناصر وأسباب، بعضها ظاهر، وبعضها خفي، ولما تتجمع فيه من عوامل ذات طبائع مختلفة، منها المادي، ومنها الروحي، ومنها الآني الحادث، ومنها الضارب في أعماق التاريخ.

إن الإنسان لما يتحمل حقيقة الوحي، ويقصد بإرادته الحرة إلى أن يجعله جاريا في واقع الحياة، فإن ذلك يتطلب منه كشرط [ ص: 120 ] مبدئي، أن يفهم الواقع الإنساني، الذي يريد أن يجريه على أساس من الوحي، وأن يتعمق في فهمه، ويبذل الجهد الكبير في ذلك، نظرا لطبيعته المعقدة، وكلما كان فهمه أشمل وأعمق، كانت قدرته على تكييفه بحسب مقتضيات الوحي أكبر، بما يستكشف من المفاصل التي يسهل منها تطويعه لينفعل بحقيقة الدين.

وقد شهد التاريخ الإسلامي العديد من الحركات الإصلاحية، ومن المذاهب الهادفة إلى تغيير الأوضاع المنحرفة عن مقتضيات الدين، لتكون متوافقة معه، وهي حركات ومذاهب لا ينقصها في أغلب الأحوال الإخلاص في القصد، والانبناء على أصول من الحق النظري، ولكن أكثر ما كان يأتيها من فشل في النتائج، أو من ضمور فيها، كان يأتيها من قصور في تمثل الواقع الإنساني، الذي تهدف إلى إصلاحه، وفي امتلاك تصور عميق لطبيعته، ولعناصر تكوينه، وعوامل تفاعلاته، فإذا ما اتجهت الإرادة إلى الإصلاح مع هـذا القصور، ارتدت في كثير من الأحيان بالخسران، فتفشل في تغيير الواقع وإصلاحه [1] .

وعلى هـذا الاعتبار، فإن فهم الواقع الإنساني يغدو عاملا بالغ الأهمية في التدين، ولا يقل أهمية عن فهم الدين نفسه، فهما [ ص: 121 ] الشرطان المتلازمان في مرحلة الفهم، اللذان يعتبران الخطوة الأولى في سبيل تحقيق الدين في الواقع، أي في سبيل تحقق التدين.

والأمة الإسلامية تشهد على هـذا العهد فصولا من واقع حياتها، لعلها لم تشهد مثلها من قبل، من حيث تشابك الخيوط. واختلاط العوامل والأسباب، وتعقد الملابسات والمظاهر. وهذا ما يدعو المجتهدين اليوم في إعادة الحياة الإسلامية إلى منهج التدين، إلى بذل جهد مضاعف في فهم واقع الأمة، وتمثل طبيعته وعوامل الفعل فيه. فما هـي عناصر الواقع وآليات فهمه عموما؟ وكيف كانت التجربة الإسلامية في الاجتهاد لفهم الواقع؟ وما هـي العناصر الأساسية التي تحكم واقع المسلمين اليوم، وتوجه الاجتهاد في فهمه؟

التالي السابق


الخدمات العلمية