الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الأول]

الدكتور / عبد المجيد النجار

2 - الضوابط النصية في فهم الدين

إن أحكام الدين يحملها وعاء من اللغة، هـي اللغة العربية، وقد اختارها الله تعالى لتحمل الدين الأبدي، لحكمة لعل منها ما لها من مقام في كفاءة الأداء لم تبلغه لغة غيرها. وقد كان لها في ذلك المقام أدب رفيع وثري، من القوانين في حمل المعاني وأدائها. كما أن المجموع النصي قرآنا وحديثا، يمثل في مختلف عناصره وحدة متكاملة في الهداية، متأتية من وحدة المصدر ووحدة الغاية. وليس النص الديني منبتا عن واقع الأحداث والنوازل، على العهد الذي نزل فيه من الله على نبيه. بل هـو وثيق الصلة بها، رغم مغازيه الأبدية وأحكامه المطلقة، تلك اعتبارات ثلاثة، تتعلق بنص الوحي، من حيث حمله للهدي الديني، لا يتأتى للمجتهد فهم لأحكام الدين من خلاله إلا بمراعاتها، وذلك ما عنيناه بالضوابط النصية، ونجملها في ثلاثة، ضابط لغوي، وضابط تكاملي، وضابط ظرفي.

أ- الضابط اللغـوي لقد ذكرنا آنفا، أن للغة العربية على عهد نزول الوحي أدبا متفردا يتصف بالعمق والثراء، وعلى حسب هـذا الأدب وقوانينه جاءت لغة الوحي تخاطب الناس. ويتبع ذلك بالضرورة، أن يكون فهم [ ص: 90 ] مدلولات النص الديني منضبطا بقوانين ذلك الأدب وقواعده، فيما فطرت عليه اللغة العربية من اللسان، حيث " تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبني أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى، كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأسماء الكثيرة باسم واحد، وكل هـذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه " [1] .

وإذا كانت اللغة كائنا حيا، يأتي عليه التطور، سواء في مدلول الألفاظ، أو في مدلول نظمها، فإن فهم أحكام الدين من نصوص الوحي، ينبغي أن يكون على بينة من هـذا الأمر، حتى لا تسقط معان ومدلولات لاحقة في حدوثها عن عهد نزول الوحي على النص الديني، فيحمل من المعنى ما لا يمكن أن يحمله، وتحصل من ذلك أفهام زائغة عن المراد الإلهي [2]

ولا يعني هـذا الاحتراز العزوف عن كل مستجدات فقه اللغة وعلم الألسنية في فهم النصوص الدينية، بل إنه من المفيد استثمار ما وصلت إليه هـذه العلوم من نتائج علمية، والاستعانة بها على [ ص: 91 ] الفهم، ولكن ذلك ينبغي أن يكون في نطاق أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانزلاق في تأولات إسقاطية تحدث في الدين ما ليس فيه، بتحميل اللغة ما لم تحمله من المراد الإلهي.

وقد نشأت في تاريخ الفكر الإسلامي، من عدم التقيد بأدب اللغة العربية، أفهام للدين، غريبة عن حقيقته، بل مهدرة لتلك الحقيقة أحيانا، ويكفي في ذلك مثالا، ما آل إليه غلاة المتأولة من الباطنية ، من تفسيرات لنصوص القرآن والحديث، تكاد تؤلف دينا آخر، غير دين الإسلام، مما هـو موروث من الأديان والفلسفات القديمة، ويقابل هـؤلاء المتأولة قوم من الظاهرية ، الذين قصروا دلالات اللغة على ظواهر اللفظ، وتحللوا من قانون اللسان العربي، في المجاز الذي هـو ركن عظيم في الدلالة على المعاني.

وكأن هـاتين النزعتين: الباطنية والظاهرية، ظلتا تتدافعان في حلقات متلاحقة من ردود الأفعال، مع التجديد في الشكل الظاهري، بحسب الظروف الزمنية، مع الإبقاء دوما على إهدار قانون اللسان العربي، مهما كان السبب المذهبي، الذي جر إلى ذلك الإهدار تأويلا أو حرفية ظاهرية؛ وفي ساحة الفكر الإسلامي اليوم مشهد من ذلك التاريخ السجالي، حيث نجد نزعة باطنية جديدة، تبحث عن معان دينية من خارج المقتضيات اللغوية [ ص: 92 ] للنص، في إيهام بأنها مدلولات لذلك النص، وخذ مثالا لذلك معطلة الحدود، وأنصبة الميراث، بادعاء أن هـذا التعطيل مراد إلهي، يلتمس في النص الديني نفسه. كما نجد أيضا نزعة حرفية في الفهم، تصر المعاني الدينية على ظواهر الألفاظ، فتضفي على الحقيقة الدينية العميقة ثوبا من الشكلية، تعطل دافعيتها في تحريك حياة الإنسان نحو الغاية المرجوة.

وإلى جانب هـاتين النزعتين اللتين تتجاوزان الضابط اللغوي، بسبب مذهبي في الغالب، فإن الجهل المحض بقانون اللغة العربية يمثل عاملا خطيرا في الزيغ، بفهم الدين عن سمته الصحيح، ودواعي هـذا الجهل هـي اليوم أكثر توافرا، بما يفشو من الزهد في التفقه في اللغة العربية وآدابها، ومن الأسباب التي ينبغي التذرع بها اليوم للفهم السديد لأحكام الدين تنشيط فقه اللغة وحذق آدابها.

ب - الضابط التكاملي إن نصوص الوحي قرآنا وحديثا وحدة متكاملة المعنى، تتضافر مختلف المقامات فيها على بيان الحقيقة الدينية. ولكن هـذه المقامات ربما كانت مختلفة في طريقة البيان تبعا لاختلاف مناسبات النزول، ومقتضيات أحواله، فقد يكون حكم ما ثابتا في موضع من الوحي ويكون منسوخا في موضع آخر، وقد يكون المعنى مجملا [ ص: 93 ] في موضع، ومبينا في موضع آخر، أو عاما في موضع ومخصصا في موضع آخر.

وباعتبار هـذه الطبيعة في النص الديني، يكون من الضروري في فهم الأحكام الدينية، النظر في النص نظرا متكاملا، بحيث تستقصى المواضع كلها التي عرضت بالبيان للقضية المعينة، والمقارنة بينها، واستيفاء بعضها من بعض، وفك ما يبدو أحيانا في ظاهرها من تعارض ليستبين من ذلك كله المراد الإلهي في تلك القضية. وقد بين الإمام الشاطبي هـذا المعنى في قوله: " إن القضية وإن اشتملت على جمل، فبعضها متعلق ببعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على أخره، وإذ ذلك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض " [3] .

إن النظر الجزئي في النص الديني، اقتصارا على موضع من مواضع البيان، يؤدي إلى فهم خاطئ في أغلب الأحيان، بل قد يؤدي إلى ما يخالف المراد الإلهي، كأن يقتصر على النظر في المنسوخ، وقد رفع الحكم الذي يحمله. وقد شهد تاريخ الفكر [ ص: 94 ] الإسلامي نماذج عدة من نزعات الفهم الجزئي، التي قصرت عن النظر الكلي المتكامل، وخذ مثالا على ذلك نزعة الخوارج في الفهم، فقد كان مأخذهم الأصلي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه رضي بتحكيم الرجال في موقعة صفين ، والحال أن لا حكم إلا الله، ولو ردوا قضية التحكيم إلى ما ورد فيها في جملة القرآن والحديث، لتبين لهم أن في الدين سعة لما فعل علي رضي الله عنه ؛ ونزعة الخوارج الجزئية تتكرر عند كثير من الجماعات عبر تاريخ المسلمين، بدرجات مختلفة، ولا يخلو منها عهدنا الراهن، وثمرتها في الغالب فهم ناشز عن الحق، رغم توفر صدق النية في أغلب الأحوال.

وقد تكون الطريقة التي شاعت في الثقافة الإسلامية في تفسير القرآن والحديث ساهمت في شيوع الفهم الجزئي، أو على الأقل هـي قابلة لأن تساهم في ذلك، وهي طريقة الشرح التحليلي للنص الديني، الذي يغلب عليه المنهج التجزيئي، حيث يرتب الشرح بحسب المواضع منفردة، فتضعف فيه النظرة التكاملية، مهما حاول الشارحون أن يقارنوا الموضع المعين، بما يماثله من المواضع الأخرى.

ولهذا الاعتبار فإنه يكون من عوامل الترشيد المهمة لفهم الدين شيوع منهج في تفسير القرآن والحديث يقوم على الشرح [ ص: 95 ] الموضوعي، الذي تتخذ فيه القضايا محاور للبحث، فتستقطب كل البيانات الواردة فيها، لتتوفر فرصة للمقارنة، تفضي إلى فهم أكثر إحاطة بالمراد الإلهي، وأكثر رشدا في إصابة الحق. وإذا كان ثمة اليوم اهتمام متزايد بالتفسير الموضوعي، فإن هـذا المنهج لم يصبح بعد منهجا شائعا في الثقافة الإسلامية. جـ - الضابط الظرفي لقد كان الوحي هـداية واقعية للناس، ولذلك كان تنزله تنجيما بحسب نوازل تقع بالفعل، ليعالج من خلالها القضايا العامة، التي تتعلق بالإنسان المطلق، لما في ذلك من شدة الوقع في المعالجة، ومن ثمة اقترنت النصوص الدينية قرآنا وحديثا بمناسبات وأسباب في نزولها، متمثلة في وقائع وأحداث، عرفت في الثقافة الإسلامية بأسباب النزول [4] .

وهذه الوقائع والأحداث، التي كانت أسبابا لنزول الوحي، تحمل من القرائن ومن مقتضيات الأحوال ما يكون ضروريا في فهم المراد الإلهي، من النصوص التي نزلت في شأنها، والتغافل [ ص: 96 ] عنها، قد يكون مدعاة إلى صرف المعنى عن حقيقة المراد، إلى ما يخالفه أو يناقضه، كأن يحمل حكم ما على المؤمنين، وقد نزل في الكفار أو العكس [5]

. وقد كان عبد الله بن مسعود يعرض اعتزازه بمعاشرة القرآن الكريم، وحذقه لمعانيه، فيقول في مقام الاستدلال على ذلك: " والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت " [6]

. ولعل هـذه المعرفة بأسباب النزول من ابن مسعود هـي أحد الأسباب في التزكية النبوية لعلمه القرآني من النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أمر بأن يؤخذ القرآن من أربعة أحدهم ابن مسعود [7] .

ويتبع المعرفة بأسباب النزول أحداثا في الزمان والمكان، معرفة أحوال العرب وعاداتها حال نزول النص، فإن النصوص نزلت تخاطب الناس على مقتضى هـذه العادات والأحوال، فيتوقف فهم مرادها على فهمها، وقد بين الإمام الشاطبي هـذا المعنى بقوله: " ليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، [ ص: 97 ] وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هـذا النمط. ومن ذلك معرفة عادات العرب، في أقوالها وأفعالها، ومجاري أحوالها، حالة التنزيل " [8] .

وقد يشكل على بعضهم علاقة المعنى الذي يتضمنه النص بالسبب الذي نزل فيه، فيقع الميل إلى تخصيص الحكم بذلك السبب أحداثا وأشخاصا، وفهمه على أنه مقصور عليه، وهذه نزعة نلحظ فيها اليوم رواجا، لدى من يرومون المروق من مبدأ الاستمرارية في الهدي الديني، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية، وجعلوا ذلك مبرر الاستعاضة عنها بأحكام وضعية. ومن البين أن هـذه النزعة كفيلة بأن تهدم الدين أصلا، حيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويئول به إلى العطالة الكاملة.

ولعل من مظاهر الحكمة الإلهية، أن كانت الأسباب التي فيها نزل الوحي، غير مضمنة في النص الديني، القرآني منه على وجه الخصوص، بل ظل هـذا النص مصوغا في صيغة كلية عامة، حتى يبقى ذلك العموم في البيان، مفيدا للعموم في الأحكام، مطلقا من [ ص: 98 ] قيود التشخيص في الزمان والمكان، وهو ما تعارف عليه الأصوليون بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقد جعلت الأسباب مأثورات تروى خارج النص، حتى يكون لها دور التجلية لمعناه، دون أن تميل به لو تضمنها في صلبه، إلى التخصيص، الذي يذهب بعمومية الأحكام.

التالي السابق


الخدمات العلمية